Ad

إن أكثر ما ساعد على نمو ذهنية المحاصر وغريزة العنف عند «حماس» هو تمكّنها من تشكيل سلطة بالفعل، وطالما أن الهدف بعيد فقد يميل المناضل السياسي إلى العنف أو اللاعنف، ولكنه عندما يقترب من الهدف ويشكل سلطة أو حكومة بالفعل فهو في ظروف الحصار بالذات يميل موضوعياً إلى العنف باعتباره رفضاً للإحباط.

لم تكد تخرج «حماس» من أزمة صدامها الدموي مع حركة «الجهاد الإسلامي» حتى دخلت في أزمة أكبر هذه المرة مع عامة الناس في غزة عقر دارها، أو ما صار يسمى في اللغة الصحفية بـ«حماسستان»، فإطلاق النار عشوائياً وسقوط سبعة قتلى وعشرات من الجرحى في أثناء الاحتفال بالذكرى السنوية الثالثة لرحيل أبو عمار ليس حدثاً بسيطاً، وستظل ذكراه تلاحق الحركة فترة طويلة من الزمن.

ماذا حدث لـ«حماس»؟ وكيف اكتسبت هذا الميل العجيب إلى العنف؟ وما نتائجه؟

قانون عام؟

الميل العام بين أعداء «حماس» الأيديولوجيين هو إدراجها تحت ظاهرة عامة أو «قانون» الحركات الإسلامية في البلاد العربية في العقود الأخيرة، وهو ميلها العام إلى العنف ليس ضد خصومها السياسيين وحدهم فحسب، بل ضد عامة المواطنين.

ويجمع هذا التفسير حركاتٍ ونُظماً في غاية التنوع؛ من الحرس الثوري الشيعي في إيران الخومينية، إلى حركة «طالبان» السنية المتشدّدة في أفغانستان إلى نظام البشير الانقلابي في السودان إلى الجماعة الإسلامية في الجزائر وحركة «القاعدة» متعددة الجنسيات والنشيطة في باكستان والعراق وأفغانستان... إلخ.

والواقع أن هذا التفسير لا يبدو سليماً، فظاهرة الميل إلى العنف وسط بعض الحركات الإسلامية الحديثة بعيدة عن أن توصف بأنها «قانون» بالمعنى المعروف في العلوم الوضعية، فثمة حركات إسلامية كثيرة تنبذ العنف وتقوم على الدفاع عن فكرة السلم الأهلي بذاتها، وتأتي إلى الذاكرة هنا «حماس أخرى» في الجزائر، وهي تجسّد معنى السلم وسط حالة مجتمعية كانت غرقت في العنف خلال عقد التسعينيات، و«حماس الأخرى» هذه قريبة من خط الإخوان المسلمين في مصر كما هو معروف.

والشيء بالشيء يذكر، فحركة الإخوان المسلمين في مصر تبنّت استراتيجيّة دعوية واضحة للغاية، ورفضت الضغوط الداخلية لدفعها إلى العنف، وهي ناجحة للغاية في العمل السلمي وسط الجماهير من خلال الاستراتيجية الدعوية، ورغم الاستدعاء الدائم من قبل خصومها لذكرى التنظيم السري وأحداث الأربعينيات والخمسينيات فإن هذه الأحداث تبدو ذكريات متلاشية من الماضي، وهناك بالطبع الحركات الإسلامية في الخليج وجميعها تقريباً سلمية، ولم تنحُ أبداً إلى العنف، بل صدّت الأفراد الذين مالوا إليه أو انخرطوا فيه فذهبوا إلى تنظيم «القاعدة» في بيشاور أو في مناطق أخرى من العالم.

السياق الاجتماعي والسياسي

والواضح أن العنف سلوك ناجم عن أوضاع اجتماعية وسياسية أكثر منه منتجاً أيديولوجياً أو مرتبطاً بأيديولوجيا بعينها.

من هذه الزاوية يمكن تفسير عنف «حماس» باعتباره نتيجة أو رد فعل أو صدى للعنف الاستعماري المروّع الذي مارسه ويمارسه نظام الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني عموماً وأهل غزة تحديداً، بل يمكن أن ننسب جانباً من هذا العنف إلى أنه صدى للعنف الجماعي الذي مارسته مختلف القوى الاستعمارية والقوى المتواطئة معها، وتَمثّل في عزل غزّة فترة طويلة وبشكل متزايد حتى الآن.

ويصعب تصوّر أن يعيش مجتمعٌ مثل المجتمع الفلسطيني في ظل الاحتلال الممتد والاضطهاد الاستعماري الطويل وسائر صور القتل الاستهدافي والتنكيل والنفي والاعتقال الإداري والسياسي والتعذيب وغيرها من صور البطش الإسرائيلي من دون أن يصاب هذا المجتمع بشيء من الميل إلى العنف، وكما يشير المفكّر الراحل الكبير «فرانز فانون» إلى أن «العنف الثوري لا يصبح الطريقة الوحيدة لدرء العنف الاستعماري فحسب، بل لاسترداد إنسانية الشعب الواقع تحت الاحتلال»، فما بالنا بأسوا أنظمة الاحتلال على الإطلاق وهي إسرائيل.

ذهنية المحاصر

ولكن هذا التفسير العام لا يفيد كثيراً، إذ قد يفسّر عنف «حماس» في مواجهة إسرائيل، وقد يتناثر عن هذا العنف الثوري رذاذ ثانوي يطول بالمصادفة قطاعاً من الفلسطينيين، ولكنه لا يفسّر إنتاج سياسة منظّمة وواعية إلى حد كبير وتتسم بالعنف ضد أبناء الوطن، وهو ما برز على نحو مفجع أثناء الانقلاب الذي دبرته «حماس» في 14 يونيو الماضي، واستقلّت بغزة من خلاله.

والأرجح أننا نجد التفسير الذي نبحث عنه في «حالة ذهنية» ربما تكون قد بدأت كتعبير عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي عاشها أنصار «حماس» في غزة عموماً، غير أن هذه الحالة الذهنية ربما تطوّرت مع الوقت كميكانيكية تتحرك تلقائياً مع كل تعاظم في شدة الحالة التي أنتجتها في الأصل.

ومن المعروف في الدراسات الاجتماعية أن ثمة ذهنية خاصة للمحاصر تقوده عموماً إلى العنف، و«حماس» عاشت وضع المحاصر تقليدياً مما جعلها تنتظر مؤامرة ما خلف الأكمة في كل لحظة، وبوجه عام تطورت ذهنية الحصار في المخيمات الأكثر فقراً في غزة ووسط الشباب الذين لم يتلقوا تجربة العيش والتعليم والنضال في الخارج مثل أنصار «فتح»، بل توقفت تجربتهم الثقافية والنضالية عند أبواب المساجد وشكّلوا في ما بعد أنصار «حماس» أو ميليشياتها، وقد «حقد» هؤلاء الشباب حقداً شديداً على العائدين الفتحاويين الذين حصلوا على أعلى الوظائف، ورتبّوا لأنفسهم أفضل مستويات المعيشة على حساب بقية الشعب الفلسطيني، وفي سياق الحصار الذي فرض على حكومة «حماس» منذ تشكّلها حتى انقلاب غزة كان الحقد ضد الأرستوقراطية الأمنية والطبقة الطفيلية الانتهازية المرتبطة بها قد انقلب بالفعل إلى عقيدة عنف.

أما بقية الصورة فيمكن استنتاجها من هذا الأصل العام، فالعنف يتحول إلى «حالة ذهنية» أقوى من الذكاء والخبرة، وأحياناً أقوى من القيادة السياسية، وهو مع الوقت يتحول إلى «ضرورة بذاتها» في ذهن القيادة، وكما يحدث مثلاً عندما يبدأ مركب ما في الاهتزاز وسط أنواء البحر يبدأ من يمنح نفسه صفة القيادة في ممارسة أشدّ صور العنف باسم الانضباط أو بذريعة الضرورة الفارقة بين الحياة والموت.

وبوجه عام يبدو أيضاً أن أكثر ما ساعد على نمو ذهنية المحاصر وغريزة العنف عند «حماس» هو تمكنها من تشكيل سلطة بالفعل، وطالما أن الهدف بعيد فقد يميل المناضل السياسي إلى العنف أو اللاعنف، ولكنه عندما يقترب من الهدف ويشكل سلطة أو حكومة بالفعل فهو في ظروف الحصار بالذات يميل موضوعياً إلى العنف باعتباره رفضاً للإحباط، ولذلك تتطور في علم النفس الاجتماعي نظرية تسمى «الإحباط – العدوان» تفسّر العنف كسلوك موجّه في الأصل إلى مصادر الإحباط التي تعطّل أو تتدخّل ضد الهدف، وقد يبدأ العنف موجهاً ضد مصادر الإحباط مثل الجناح الأمني البيروقراطي لـ«فتح» في 14 يونيو، ثم يبدأ في التشكل كميكانيكية تتحرك تلقائياً مع الشعور المتزايد بعدم الأمان، وعندئذ ينفلت العنف وينقلب إلى أي مواطن مهما كان بسيطاً.

وتتصرّف إسرائيل مع «حماس» انطلاقاً من هذه المعارف، فهي تغذي لديها عقدة الحصار وتتلاعب بها كلما بدا أن الموقف مال إلى الهدوء أو أن جهود مصالحة وطنية حقة بدأت في النجاح.

ردّ فعل مضاد

ولكن تلاعب إسرائيل بالحالة الذهنية لـ«حماس» ومضاعفة عقدة الحصار لتأليب الفلسطينيين ضد بعضهم البعض ليس أسوأ نتائج الممارسات العنيفة لـ«حماس»، فأسوأ هذه النتائج هو بروز رد فعل ميكانيكياً وسط النخبة المؤيدة لـ«فتح» تدفع نحو «الحل الأميركي» بعيداً عن العرب وبعيداً عن الإرث التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية باسم رفض الشعارات، فلم تعد النخبة تخاف إسرائيل وحدها بل صارت تخاف «حماس» أيضاً!

بوجه عام يبدو أن تشدد «حماس» قد ينتج تشدّداً في الاتجاه المضاد لأول مرة في التاريخ الوطني الفلسطيني.

* كاتب مصري