الإعلام اللبناني في وطنه الثاني

نشر في 17-10-2007
آخر تحديث 17-10-2007 | 00:00
 علـي بلوط

«ميثاق الشرف» غير المكتوب الذي تعاقدنا عليه يرغمنا أخلاقياً على ألا نخدش طهارة الكلمة ونتجنى على الحقيقة، التي يجب أن تكون الهدف الأول والأخير، وكذلك الابتعاد عن استخدام ما يسمى بـ«لغة الشارع» في معالجتنا للأمور المصيرية وغير المصيرية على حد سواء.

عندنا في لبنان الأخضر -الذي أصبح بفعل حرائق الطبيعة وعواصف السياسة رمادي اللون- حرية صحافة تحميها القوانين، ولكن، للأسف الشديد، ليس عندنا صحافة حرة. وإليكم بعض الأدلة:

في منتصف الستينيات انتُخب الصحافي شارل حلو رئيساً للجمهورية خلفاً للواء فؤاد شهاب قائد الجيش الذي جاء به تفاهم سوري-أميركي بعد أحداث عام 1958. الولايات المتحدة رشحته، وسورية، التي كانت تنضوي في تلك الأيام تحت علم وحدة جمال عبدالناصر، وافقت عليه. فاجتمعت الأكثرية النيابية في ذلك الوقت في فندق الكارلتون، ورشحت ابن عم الرئيس الأمير عبدالعزيز شهاب، ونام شهاب الثاني ليلته رئيساً للجمهورية، لكن «كلمة السر» جاءت قبيل ساعتين من إجراء عملية الانتخاب، فقلبت الموقف رأساً على عقب، وكانت النتيجة أن هذه الأكثرية تحولت، بفعل قادر، من تأييد ابن عم الرئيس إلى انتخاب شارل حلو.

أذكر هذه التفاصيل المختصرة للدلالة على أن الثوابت السياسية ما زالت غير ثابتة في لبناننا الحبيب، وأن كلمة السر عادة ما تأتي في اللحظات الأخيرة. فهل يعيد التاريخ نفسه؟

ليس هذا هو الموضوع الذي سأتطرق إليه، الموضوع هو دور الصحافة اللبنانية ومسؤولياتها في إيصال البلد إلى ما وصل إليه، وإلى ما يمكن أن يصل إليه.

استقبل شارل حلو -رحمه الله- بعد انتخابه رئيساً وانتقاله إلى القصر الجمهوري، وفد نقابة الصحافة الذي يمثل بأكثريته أصحاب الصحف ومالكي الامتيازات، فوقف الرئيس الأسبق على باب قصره الخارجي يستقبل زملاءه القدامى، وكان كلما صافح واحداً منهم سأله: كيف حال الأمير الفلاني؟ أو كيف حال الرئيس العربي الفلاني؟ أو كيف حال رئيس حكومة أو وزير خارجية أو رئيس جهاز مخابرات تلك الدولة الأجنبية؟ بحيث شمل السؤال الأعضاء الـ12 لنقابة الصحافة نتيجة معرفته بارتباطهم السياسي، وبعد أن انتهى، وجلس الجميع التفت إليهم وقال بمنتهى الجدية: أهلاً وسهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان.

اليوم، الوضع لم يتغير من حيث الجوهر، بل ازداد سوءاً لجهة المحتوى مما يدفعنا إلى الصراخ مطالبين بالعودة إلى «ميثاق الشرف» غير المكتوب الذي تعاقدنا عليه في وقت لم يمرّ عليه الزمن، وجيلاً إثر جيل، منذ أن تمّ اختراع الحبر والورق بعد نشوء الكلمة. ميثاق شرفنا هذا يرغمنا أخلاقياً على ألا نخدش طهارة الكلمة ونتجنى على الحقيقة التي يجب أن تكون الهدف الأول والأخير، وكذلك الابتعاد عن استخدام ما يسمى بـ«لغة الشارع» في معالجتنا للأمور المصيرية وغير المصيرية على حد سواء.

أيام زمان كنا نتعرض إلى محاكمة وإلى دفع الغرامات المالية، وفي بعض الأحيان، إلى السجن، إذا ما وصفنا في كتاباتنا أحد السياسيين أو المسؤولين بالرجعية أو المذهبية والطائفية، صرنا اليوم نُلصق تهم العمالة للأجنبي، والخيانة للوطن، من دون أن يرتجف القلم بين أصابعنا، أو يصرخ الورق الذي نكتب عليه غاضباً ومحتجاً. فقدنا احترامنا لأنفسنا وفقدنا احترامنا للقارئ الذي يمد يده إلى جيبه صبيحة كل يوم ليدفع ثمن قراءة شتائمنا بعضنا إلى بعض، وأصبح ميزان الشهرة يقاس فقط باختراع كلمات جديدة للشتم والتجريح ليست موجودة في قواميس لغة «أولاد الشوارع».

كلام قاس ما أكتبه؟ ربما. لكنه ليس أشدّ قسوة من المصير الذي ينتظر بلدنا إذا ما تابعنا السير في هذا النهج المقيت، وكي لا أتهم بالتخصيص أسارع إلى القول إن هذه الكلمات الغاضبة تشمل أجهزة الإعلام اللبنانية كلها، المرئية والمسموعة والمكتوبة، ولا فرق بين صحافي أو كاتب أو مفكر وآخر إلا بمقدار ما يدمّر سمعة مهنتنا التي كانت مقدسة، ومعها البلد الذي نحب.

في الخمسينيات من القرن الماضي، وقف شاعرنا الكبير الجواهري -طيب الله ثراه- في إحدى دور السينما في بيروت ليلقي قصيدة جديدة في احتفال ضمّ علية القوم، من حكام وساسة وصحافيين وكتّاب ومفكرين، إذ أطلق صرخته اللاذعة في وجه حملة الأقلام قائلاً:

وصحافة صفر الضمير كأنها سِلـَع تُباع وتُشترى وتُعار ولعل الجواهري لم يصف حالة المهنة في الخمسينيات، بل تنبأ بما هو حاصل اليوم.

في هذا المجال سأرتدي ثياب محامي الشيطان: إن المستوى الذي وصلنا إليه في مهنة الحبر والورق لسنا المسؤولين عنه وحدنا، وإن كنا، في التحليل النهائي نتحمل مسؤولية «نقل الكفر» ونشره وتوزيعه وتعميمه على المدى الأوسع. المسؤولية الأساس تقع على الفكر السياسي، كل الفكر، الذي اتخذ من التشهير متراساً، ومن الشتم سلاحاً، ومن تحوير الحقائق، كي لا أقول تزويرها في كثير من الأحيان، أسلوباً في المواجهة، والضحية المستهدفة هي عقول القراء التي ننقل إليها صبحاً وظهراً وفي المساء «الحقيقة الدسمة» المحشوة بالسم القاتل. ماذا لو عدنا إلى أيام زمان، إذ كان الحرف لا يستهدف إلا الحقيقة، أو شبه الحقيقة، وكانت الأخلاق الوطنية هي رقيبنا وحسيبنا فنمتنع جميعنا، من دون استثناء يسارنا ويميننا والوسط، عن نقل هذا الكفر عن ألسنة «الكفار»، وبذلك يصبح هؤلاء وحيدين، معزولين، لا ينقل عنهم، ولا عن ألسنتهم إلا ما يفيد الوطن والمواطن، وما يطفئ الحرائق لا إشعالها وما يدعو إلى التآلف لا التنافر، والتصالح لا الاقتتال. ألا تعتقدون معي أن استخدامنا هذا السلاح السلبي من شأنه أن يعيد «هؤلاء» إلى حدود الصواب، وإذا لم ينفع هذا الدواء في ردع هؤلاء الساسة، نكون قد عدنا إلى احترامنا للمهنة-الرسالة، أو على الأقل نوقف هذا «السرطان» المخيف من الانتشار!

قد نجد من يقول إن عصر أيام زمان هو غير عصر هذه الأيام، فمهنة الحرف أصبحت صناعة، يسيطر عليها صنّاع السياسة، ويديرونها بالأسلوب وبالشكل وبالمحتوى الذي يفيد صناعتهم ويدفعها قدماً إلى الرواج، من دون الالتفات إلى المعايير الأخلاقية، فالربح هو سيد الأخلاق من أي جهة أتت به الرياح. أرد على هذا القول: إذا كانت الحقيقة هي ما تقولون، وهي في الواقع ما تقولون، فالمصنع لا يقوم على خزائن مموليه المملوءة بالذهب، بل على سواعد العاملين فيه، فإذا تضافرت هذه السواعد وساند بعضها بعضاً، فإنها تفرض شروطها على أصحاب هذه الصناعة، وتعيد إلى المهنة بعضاً من احترامها للذات، وبالتالي نرجع إلى سلوك طريق المهنة-الرسالة، لا المهنة الممتهنة. يرد قائل: بكلمة صغيرة من أصحاب «المصنع» يصدر قرار «قطع العيش» ويتم الاستبدال، ويأتي «عمال» آخرون جدد يتبعون الأوامر والتعليمات ولا يعصونها. أرد فأقول: إن اسم اللعبة في هذا المجال هو التضامن الكامل بين «عمال» المهنة-الرسالة، بحيث يصعب على أي صاحب صناعة أن يجد البدلاء، فنحن ننتمي إلى حرفة عنوانها الموهبة ومضمونها الكفاءة. بالاستطاعة أن تنتخب رئيساً، أو تعينه بمرسوم أو تقيله بحكم إعدام، لكن ليس بالإمكان خلق موهبة بجرة قلم، ولا أحد يستطيع أن يصدر مرسوماً بتعيين شاعر، أو قراراً بانتخاب كاتب، أو حكماً بإعدام رسام، فالموهبة وحدها هي المعيار الأول والأخير، وأصحاب المواهب في عالمنا الصغير أقل ندرة من وطنية السياسة الصالحة في عالمنا الكبير. يرد القائل ببعض الانزعاج: ماذا تريد أن تقول؟ أرد بكثير من الارتياح: أن أرفع صوتي إلى مداه الأقصى صارخاً يا أصحاب المهنة-الرسالة اتحدوا. يرد القائل بسخرية: أنت تحلم. أرد بسوريالية: ومتى كانت الحياة حياة بلا أحلام؟. يرد بنفاد صبر: إنها أمنية صعبة التحقيق إذا لم تكن مستحيلة. أرد بواقعية: النزول إلى القمر كان ضرباً من المستحيل والوصول إلى الفضاء الأعلى وإلى عمق أعماق البحار كان يعتبر مستحيلاً. يرد القائل: وماذا تحتاج من أجل تحقيق هذه الأمنية المستحيلة؟ أرد على القائل بكل راحة أعصاب: إلى شيء بسيط جداً، أحتاج إلى القليل... القليل من الأخلاق المهنية.

* * * * *

النقطة التي جعلت كأس «حنقي» و«غضبي» يفيض هو ما سمعته وما قرأته أخيراً على ألسنة سياسيين لبنانيين يُرَددون المثل الشعبي «الكذب ملح الرجال... وعيب على اللي (الذي) ما بيكذب!».

وهذا غيض من فيض مما تحفل به أجهزتنا الإعلامية هذه الأيام تنقله بكثير من الفرح والفخر نافضة يديها من المسؤولية باعتبار أن «ناقل الكفر ليس بكافر».

أعزائي الزملاء: إن ناقل الكفر هو كافر بعينه أولاً وأخيراً.

* كاتب لبناني

back to top