الحركات الاجتماعية: تراجع أم تقدم؟

نشر في 04-05-2008
آخر تحديث 04-05-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

الأحزاب تعاني أزمة طاحنة في العالم كله بينما تتسع رقعة الحركات الاجتماعية، ويصدق ذلك بالذات في النظم الثقافية التي لم تستوعب فكرة الأحزاب، ولاسيما في العالم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً.

أكثرية من تقابلهم من البيض الأميركيين الأعضاء في الحزب الديموقراطي يؤيدون السيدة هيلاري كلينتون، وهذا يجبرك على التساؤل: من أين يأتي إذن التأييد الكبير الذي يحظى به منافسها العنيد... باراك أوباما؟

يأتي بكل بساطة من مصادر التجديد التاريخية نفسها في المجتمع الأميركي، وهي الحركات الاجتماعية.

حركة المرأة هي حركة اجتماعية، وحركة مناهضة الحرب، وحركة نزع السلاح من المدن الأميركية، وحركة الحقوق المدنية والمستندة إلى الأفارقة الأميركيين، وفيض آخر من الأجندات هي أيضا: حركات اجتماعية. وفي ما يبدو أنها تتدفق على أوباما الذي صار يمثلها أكثر بكثير مما يمثل الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية.

* خصومة مع الأحزاب؟

يسبب تعبير «الحركات الاجتماعية» بعض الارتباك حتى بالنسبة للمحترفين في العلوم الاجتماعية، فالتعبير يوحي بأن الحركات المقصودة ليست ذات صفة سياسية، إنما تقصد الإصلاح الاجتماعي، وواقع الأمر أن هدفها وتعريفها يرتبط إلى حد بعيد بالإصلاحات الأكثر عمقاً مما يمكن تحقيقه في المجال السياسي وحده. فهي حركات تستهدف تغيير جانب أساسي أو أكثر من البنية الاجتماعية الموروثة وتحقيق مكاسب كبيرة لقطاع مهم من المجتمع أو لرؤية بعينها لتطور المجتمع والدولة وللاستراتيجيات السياسية المحلية والدولية، ولكنّ أياً ما كان هدف الحركات الاجتماعية فلا يمكن أن يتحقق من دون السياسة والدولة، وبتعبير آخر فأكثرية الحركات الاجتماعية هي حركات سياسية بامتياز أيضاً.

ويبدو أن الحركات الاجتماعية صعدت على حساب الأحزاب على الأقل في المجتمعات الديموقراطية. فعلى عكس الأحزاب السياسية فهي لا تنهض على إيديولوجيا منسجمة ومتكاملة أو برنامج حزبي شامل يتم تطبيقه عندما تسنح الفرصة بواسطة حكومة الحزب بعد فوزه في الانتخابات، وأغلب الحركات الاجتماعية لديها أجندة جزئية أو بسيطة أو قطاعية؛ مثل حقوق المرأة، أو أقلية بعينها مثل الجماعة الأفريقية في الولايات المتحدة وأميركا الوسطى والجنوبية، أو حقوق فئات مهنية، أو هدف محدد مثل إجهاض الحرب الأميركية ضد العراق والدعوة إلى السلام عموماً. آخر الحركات الاجتماعية التي أعلنها العالم العربي هي حركة «نزاهة» في الكويت وتستهدف بوضوح محاربة ظاهرة شراء الأصوات في الانتخابات العامة.

وليست الحركات الاجتماعية جميعها تقدمية أو مسالمة بالضرورة، فبعضها يميني وعنيف مثل رابطة الشمال في إيطاليا وحركة «الحق في السلاح» في أميركا. لكن أكثر ما يميز الحركات الاجتماعية بشكل خاص مقارنة بالأحزاب السياسية، هو أنها فضفاضة من الناحية التنظيمية: لا بطاقات عضوية إلا فيما ندر، لا التزاما شاملاً أو تقييدياً بتنفيذ تعهدات ما، لا طاعة ولا أغلبيات وأقليات في التصويت، لا قيادات وقواعد، لا لوائح تنظيمية مركبة ومعقدة تلاحق كل شيء بالتنظيم أو بوضع ترتيبات دقيقة. فالحركات الاجتماعية تتدفق ببساطة تبعاً لاتفاقات طوعية تتم عن طريق الحوارات الواسعة النطاق وعبر شبكات واسعة أو صغيرة من العلاقات والروابط التي قد تكون ممتدة جغرافياً. وربما نستطيع اليوم أن نتحدث عن الحركات الاجتماعية «الافتراضية» التي فرضت نفسها بقوة أخيراً في السياسة المصرية بالدعوة لإضراب 4 مايو بعد أن نظمت بنجاح لم يتصوره أحد إضراباً قومياً يوم 6 أبريل. ومعنى ذلك أن البعد الجغرافي لم يعد له أدنى أهمية في تنظيم الحركة الاجتماعية مثلما كان عليه الأمر في الماضي.

* التجربة العالمية

وببساطة تعد الولايات المتحدة البلد الذي تتوطن فيه أكثر وأقوى الحركات الاجتماعية لأسباب كثيرة، فهي ذات ثقافة شعبوية عميقة ومعادية للمؤسسات وعموماً للحكومات الفدرالية أيضاً، ولكنها تحض بقوة على «العمل معاً» أو التنظيم. ولأن الأحزاب تتحكم بها مصالح عملاقة، فالتحرك عبر الفضاء الاجتماعي كله صار هو الطريقة المفضلة لدى الشباب الأميركيين للتغلب على الجمود السياسي. بل إن الأحزاب السياسية الأميركية ذاتها تشبه الحركات الاجتماعية في كونها فضفاضة إلى أقصى مدى، وتعد الانتخابات الأولية الفرصة المثالية لصعود وتأثير الحركات الهادفة للتجديد السياسي بشرط التفافها حول مرشح ما.

إن استعراض التطورات السياسية في العالم كله تثير التباساً شديداً حول الأدوار بين الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية. فالأحزاب تعاني أزمة طاحنة في العالم كله بينما تتسع رقعة الحركات الاجتماعية، ويصدق ذلك بالذات في النظم الثقافية التي لم تستوعب فكرة الأحزاب، ولاسيما في العالم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً.

وفي مصر، تتواجه اليوم حرفياً الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية حول شعارات الإضراب العام التي أطلقها المدونون وأعضاء «الفيس بوك» أو ببساطة حركة الشباب الليبرالي المثقف، وتقف الأحزاب السياسية لهذه الدعوة بالمرصاد جزئياً لخدمة نظام الحكم وجزئياً لخوفها من هلاكها الخاص وخسارتها للمبادرة السياسية، وسوف نجد ظواهر مشابهة ومشتركة كثيرة بين الأقطار العربية التي خاضت مرحلة وسيطة على الطريق الصعب نحو الديموقراطية مثل مصر والمغرب والجزائر وفلسطين.

كيف نفهم هذه العلاقة العدائية بين الأحزاب والحركات الاجتماعية؟ رغم أن الأحزاب تعاني أزمة شاملة حتى في أوروبا موطنها الأصلي، فهي وحدها التي تستطيع أن تحكم وأن تحسم الانتخابات العامة. وبالمقارنة فإن مجال الضعف الأشد للحركات الاجتماعية ليس كما يشير بعض علماء السياسة طابعها الدوري أو الموسمي، بل عجزها عن خوض الانتخابات وبناء التحالفات وصياغة التوافقات بما يكفل إمكان الفوز بالأغلبية البرلمانية، والقيام بوظائف الحكم. الأحزاب السياسية تحتكر هذه الميزة ولكنها بالمقابل تفتقد الشعبية والتماسك، وأيضاً المبادرة السياسية التاريخية، وهي مجالات امتياز الحركات الاجتماعية.

ويترتب على عجز الحركات الاجتماعية عن المنافسة على السلطة أن تبقى في المعارضة إلى الأبد أو تتفكك. وبالمقارنة فإن الأحزاب السياسية صارت بعيدة للغاية عن التعبير عن المشاعر الطازجة والمتغيره للمجتمع، وهي نفسها صارت غلافاً خارجياً من دون محتوى، ويمكننا تشبيهها بـ«البطارية الفارغة»: أي هيكل من دون طاقة فعل حقيقية.

ويقودنا مسح التجارب الأخيرة إلى اكتشاف حلين: أولهما، أن تقوم الحركات الاجتماعية بإعادة شحن الأحزاب السياسية، وهذا هو ما نجح فيه اليمين الإيطالي بقيادة بيرلسكوني بامتياز أخيراً باكتساح الانتخابات العامة الأخيرة على حساب أحزاب اليسار الأفضل تنظيماً. أما الحل الثاني فهو تحالف حركات اجتماعية عدة وقيامها بتكوين رابطة ما تشبه الأحزاب لخوض الانتخابات. وكان الأمل أن تتمكن حركة «كفاية» من تشكيل هذا التحالف لخوض الانتخابات الرئاسية في مصر عام 2005، وهو ما لم تنجح فيه لأن النظام السياسي لم تكن لديه أدنى نية لقبول التغيير.

ولكن ماذا يعني ذلك؟ هل الحركات الاجتماعية تتراجع أم تتقدم؟ على المستوى العالمي مازالت الصورة غائمة، فالحركات الاجتماعية هي الطاقة الحقيقية للتغيير في النظم السياسية الراكدة والعتيقة. ولكنها لا تستطيع أن تصنع مستقبلاً للمجتمع من دون التأثير من خلال الأحزاب القادرة على الحكم.

أما على المستوى العربي فالصورة واضحة للغاية: الحركات الاجتماعية وحدها هي مضخة التجديد الوحيدة تقريباً في مناخ عام من الاستبداد والفساد والركود الخارق الذي يستوعب حتى أحزاب المعارضة!

* نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام

back to top