خذ وخل: الربعي الساحر الحاضر الغائب!

نشر في 09-03-2008
آخر تحديث 09-03-2008 | 00:00
 سليمان الفهد

إن سيرته تتضوع بأريج المثقف المستنير ذي الضمير المتماهي مع الضمير الجمعي للمجتمع والأمة. وكم هي مصادفة أن يتزامن رحيله مع موعد نشر مقالته البهية الجذابة «أربعائيات» التي تصدر كل أربعاء... والتي يتبدى في متنها وسياقها «الربعي» الأديب والشاعر والحكيم والفيلسوف والتربوي والمتصوف والحكّاء المترع بالحضور والجاذبية.

* «وفي مغيب آخر أيام عمري... سوف أراك وأرى أصدقائي، ولن أحمل معي تحت الثرى غير حسرة الأغنية التي لم تتم!!». تداعت إلى ذاكرتي عبارة «ناظم حكمت» شاعر تركيا الفذ إثر سماعي خبر وفاة الصديق الدكتور أحمد الربعي رحمه الله، وهو شعور حاد بأننا نحن -معشر قراءة- فقدنا «البوصلة» التي تحدد لنا الهم الوطني أو العربي الذي يستأهل أن يكون محط اهتمامنا، ويحدد مزاجنا النفسي، من الصباح الباكر بمعية فنجان القهوة الذي نحتسيه، ونسبر معه القضية التي يتمحور حولها همه الوطني أو العربي كما هو دأبه دائما، وحين يجد أن الحق يحرضه على أن يبحر ضد التيار، ويغني خارج السرب، لا يتردد البتة في أن يدبّج يراعه الصريح الشفاف الجريء الموقف الذي اختاره لمقالته الشهيرة بالمقلوب، فضلاً عن مقالته الأخرى في صحيفة الشرق الأوسط التي اختار أن يكرسها للقضايا والهموم القومية العربية.

آخر مرة سمعت بها صوته كانت منذ ثلاثة أشهر حين اتصل بي متسائلاً: متى تعود إلى ملاذك في القاهرة؟ كان رحمه بحاجة إلى نسخة من كتاب «المسيحية: نشأتها وتطورها» تأليف شارل جينيبير، وترجمة الدكتور الشيخ عبدالحليم محمود. ومن ثم تحدثنا عن أصدقائنا المشتركين في مصر، متمنياً عليّ إبلاغهم شوقه وتحياته، وطمأنتهم إلى أنه «بخير» يفضحه صوته الواهن، والذي يخبره الجميع ملعلعاً مدججاً بمختاراته من شعر «المتنبي» شاعره الأثير إلى نفسه، ونابضاً بنبرة السخرية المضمرة في حديثه. لكنه مع ذلك كان حريصاً على أن يوحي لي -وربما لغيري- بأن محنته المرضية الخطيرة مجرد أزمة عابرة استجاب لها بالخضوع للعلاج الممكن، وبروحه المعنوية العالية التي كانت مثار دهشة وإعجاب كل من عاده وزاره في منزله، أو سأل عبر التلفون، وأذكر بالمناسبة أني حين زرته إثر عودته الأولى إلى حضن الوطن، سألته عما إذا كان يفكر في توثيق سيرته مع مرضه اللعين! لاذ بالصمت... وراعني صمته، وخشيت أن يكون فهم اقتراحي بمعنى ملتبس لا أعنيه، لكنه سرعان ماأزال حيرتي حين قال: سأحاول، ولم أعقب. والحق أن الذي شجعني على طرح هذا الاقتراح هو السمت الذي تجلى به لزواره، الدال على أن روحه المعنوية ما برحت متينة راسخة.

* إن سيرة «بوقتيبة» الذاتية: ثرية وعميقة ومتنوعة وحرية بالتوثيق والتسجيل والصياغة والنشر في مصنف أدبي يثري خزانة وأرشيف أدب السيرة الذاتية العربية، ولعل الزميلة الشابة علا حسني منصور سكرتيرته وابنته الروحية: هي أجدر من يقوم بهذه المهمة الوطنية والقومية الضرورية، ذلك أن جل الوثائق المكتوبة والمصورة والمتلفزة بحوزتها، والتي ترصد أفعاله ونشاطه، في التربية والسياسة والاجتماع والصحافة، وكل ممارساته في الحياة الدنيا، والتي يتجلى فيها عشقه بالضرورة لثقافة الحياة... ضد ثقافة الموت والموات، وما تنطوي عليه من عنف وإرهاب ومصادرة للرأي الآخر وصاحبه في آن!

إن سيرته تتضوع بأريج المثقف المستنير ذي الضمير المتماهي مع الضمير الجمعي للمجتمع والأمة. وكم هي مصادفة أن يتزامن رحيله مع موعد نشر مقالته البهية الجذابة «أربعائيات» التي تصدر كل أربعاء... والتي يتبدى في متنها وسياقها «الربعي» الأديب والشاعر والحكيم والفيلسوف والتربوي والمتصوف والحكّاء المترع بالحضور والجاذبية. ومن هنا لاعجب أن يصفه أهلنا في محافظة الجهراء بلقب: الساحر! وهم لا يمنحون الألقاب من دون حيثيات وأسباب، ولكنهم ينحتونها من واقع الحال دوماً. وحده الساحر الذي تتجسد الوحدة الوطنية والعربية في مشهد تشييعه ومجلس عزائه! لست بهذه الخاطرة أنعيه وأرثيه وأذكّر بمناقبه. ربما لأني فعلت ذلك مراراً في حياته، والذي يعزيني في هذا السياق هو أن كلمات الحق التي قلتها فيه: استقبلها بجذل مضمر وتواضع بهي مطبوع، كما هو دأبه مع مريديه الذين تيتموا بغيابه رحمه الله وألهمنا وذويه الصبر والسلوان.

ولعل خير ما نختم به المقالة هو ما قاله الشاعر «نجيب سرو» في ديوانه «لزوم ما لا يلزم»:

«أنا لست أحسب بين فرسان الزمان

إن عد فرسان الزمان

لكن قلبي كان دوماً قلب فارس

كره المنافق والجبان

مقدار ما عشق الحقيقة».

back to top