زحف النمل

نشر في 12-04-2008
آخر تحديث 12-04-2008 | 00:00
 محمد سليمان

يكتشف القارئ لرواية «زحف النمل» للكاتب السوداني أمير تاج السر في النهاية أن المطرب قد استبدل بزحف النمل في دمه تحت ماكينات الغسيل الكلوي زحف نمل آخر أشرس وأعتى، هو نمل التخلف والجهل والانتهازية والقبح، وهو النمل الذي كان يدمر ويشوه ثقافتنا وإبداعنا في الأعوام الأخيرة.

قبل عشرين سنة كان الكاتب السوداني «أمير تاج السر» طالبا يدرس الطب في مصر وشاعراً شابا قصائده تشي بموهبة حقيقية وتعد بالكثير لكنه باغتنا في ذلك الوقت بروايته الأولى «كرمكول» التي رحب بها الجميع، والتي ساهمت أيضا في تغيير مساره الإبداعي فانحاز إلى الرواية واتخذها شكلا أساسيا لإبداعه فصدرت له الروايات «سماء بلون الياقوت»، «نار الزغايد»، «عواء المهاجر»، «صيد الحضرمية» و«مهر الصياح» ثم روايته الأخيرة «زحف النمل» التي صدرت في القاهرة قبل شهرين عن دار العين لتساهم مع رواياته الأخرى في ترسيخ صوته كواحد من أبرز الروائيين الشبان في السودان وأكثرهم تميزا.

الغرائبية -شعرية السرد- أسطرة المكان... ثلاثة محاور أساسية يشكل بها أمير تاج السر عالمه الروائي لكنه في «زحف النمل» يخرج على معظم هذه المحاور ليقدم لنا نصا أبسط وأقرب إلى الواقعية وأكثر انشغالا برصد حركة الواقع وانقلاباته.

في السطور الأولى يضعنا الراوي البطل «أحمد ذهب» سلطان الطرب وإمبراطور الغناء في قلب الحدث «انهرت فجأة في ذلك الحفل الخيري الكبير الذي أقامته إحدى المؤسسات لدعم أرامل قتلى الحرب الأهلية في البلاد وأيتامها... كان انهيارا تاما ومباغتا رعشات اليدين والقدين، تشوش الذهن تسارع دقات القلب... خيران العرق الغزيرة وغياب الذاكرة» في المستشفى يبلغه الطبيب بتعطل كليتيه عن العمل وضرورة البحث عن كلية مناسبة يتبرع بها أويبيعها أحدهم وإلى أن يظهر ذلك المتبرع لا يجد البطل سوى الاستسلام لماكينات الغسيل الكلوي والرحيل في الماضي لتجسيد كفاحه ورحلة صعوده على مدى أربعة عقود بعد خروجه من قريته في الجنوب متجها إلى الخرطوم الكبيرة والمبهرة والتي ستحتضن موهبته وتكافئه بالمجد والشهرة «لابد أن انبهارا مجنونا قد حدث لأن قدمي زاغت فجأة عن الدرجات وهويت إلى أرض العاصمة وحيدا ومكسور الساق» يحدثنا الراوي عن بداية رحلته الفنية بعد وصوله إلى العاصمة ونقله إلى المستشفى بسبب كسر ساقه ثم التقائه بصديقي رحلته الفنية «أكوي» ماسح الأحذية و«دودة القز» الشاعر وكاتب الأغاني.

«لماذا جئت إلى الخرطوم يا ذهب؟» يسأل أكوي القادم من الجنوب أيضا والممدد على السرير المجاور «أنا مطرب... مغن سلطان الطرب الذي سيهز العاصمة من أقصاها إلى أقصاها» يقول ذهب لماسح الأحذية الذي يبتسم قائلا: «إذا غنيت... أريد أن أسمع صوتك» ورغم الألم والساق المشدودة والمعلقة يغني ذهب وينبهر أكوي ويستدعي صديقه شاعر الأغنية «إبراهيم علي» الشهير بـ«دودة القز» لأنه كما يقول «ناسج الحرير» والذي ينبهر بدوره بصوت ذهب وأغانيه... هكذا تبدأ رحلة الصعود إلى النجومية التي تستغرق عشرات الأعوام والتي تختل فجأة بسبب الفشل الكلوي الذي داهم سلطان الطرب وإمبراطور الغناء.

«أبوزيد زيتون» الفارس الذي سيفدي الإمبراطور بعضو من أعضائه... «لقد حضر من أسابيع وتطابقت تحاليله كلها معك» يقول الطبيب: أبوزيد زيتون الراعي الذي لا يعرف شيئا عن الموسيقى والغناء والقادم من البعيد القاحل هوالمتبرع المناسب من بين آلاف المتطوعين لإنقاذ إمبراطور الغناء «هل تريد ثمنا لكليتك؟ سألت الصحافة...» أجاب «بل لوجه الله... أريد ثوابا فقط» صرخ زيتون الذي يقيم في بيت المطرب استعدادا لإجراء الجراحة والذي استدعى أقاربه وأقارب الأقارب ثم أهل قريته «الصويعة» لكي يحتلوا بيت المطرب ويحيلوا حياته إلى جحيم، وفي غرفة العمليات يعلن زيتون أن امرأته لم توافق على تبرعه وتطلب الطلاق وقد تغير رأيها إذا أسكتناها بشيء وكان هذا الشيء هو كل ممتلكات المطرب ومدخراته وفنه لكي يكتشف القارئ في النهاية أن المطرب قد استبدل بزحف النمل في دمه تحت ماكينات الغسيل الكلوي زحف نمل آخر أشرس وأعتى هو نمل التخلف والجهل والانتهازية والقبح وهو النمل الذي كان يدمر ويشوه ثقافتنا وإبداعنا في الأعوام الأخيرة.

* كاتب وشاعر مصري

back to top