توسيع الزنزانة

نشر في 06-08-2007
آخر تحديث 06-08-2007 | 00:00
 د. عمار علي حسن

علينا أن نواجه الجدار الأكثر ارتفاعاً والأكبر سمكاً، وهو ما في أنفسنا من قيود، تقفز رقيباً ذاتياً لحظة الكتابة، وتلعثماً وقت المجاهرة بالحق والصدق، وقعوداً إذا دعا الداعي إلى يوم الحرية الأكبر، ولامبالاة في مواجهة ظاهرة «الفرز العكسي» في مؤسساتنا.

«حريتي أن أوسع زنزانتي»... هكذا قال محمود درويش في إحدى قصائد ديوانه الأثير «هي أغنية»، وكأنه يلخص حال المواطن العربي، الذي يخطفه الحلم إلى حرية مجنحة، فيرده الواقع إلى رغبة فقط في توسيع الزنزانة، أو تحسين شروط الحياة داخل السجن الكبير.

ومع شعار «تدرجوا حتى تنضجوا فتنالوا حريتكم» المرفوع في وجه كل من يريد حرية حقيقية «الآن... وهنا» يرى المتشائمون أنه لم يعد أمام كل منا سوى أن يحمل زنزانته فوق ظهره، فتسير معه أينما حلّ، وليس له أن يتخفف أو يتخلص منها، بل عليه فقط أن يُعوّد ظهره على التحمل، أو يتودد إلى الزنزانة فلا تُثقل من حمولتها فتعجزه عن السير تماماً، وهكذا حتى يصل إلى «المحطة الأخيرة» من عمره المترع بالشقاء.

المشكلة أن الزنزانة متعددة الجدران، فلا يكفي أن نهدم أحدها أو نصنع به كوة كافية لتهريب أجسادنا منها حتى نجد أنفسنا أحراراً طليقين، بل علينا إما أن نمارس لعبة ترويض الوقت، أو أن نبحث عما نزيل به الزنزانة تماماً، وعندها علينا أن نتحمل نتيجة المغامرة، فإما التحرر وإما الموت.

ويقول الخائفون والمترددون منا علينا قبل أن نقرر ما سنفعل أن نقرأ موسوعة الباحث العراقي عبود الشالجي، التي وسمها بـ«موسوعة العذاب» ليسرد في ثمانية مجلدات كاملة طرق تعذيب السجناء والمتمردين على السلاطين الجائرين في التراث العربي، ونضيف إليها ثمانية مجلدات أخرى من صنع خيالنا، أو نتاج لبحثنا أو تجربتنا، عن التعذيب عند العرب المعاصرين. وقد تنفعنا قراءة روايات عبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم، ويمكن أن نختتم القراءات بروايتين خفيفتين «العسكري الأسود» ليوسف إدريس و«السرداب رقم 2» للعراقي يوسف الصائغ.

ويسدى هؤلاء الخائفون النصح إلى من يتهم بعض الباحثين بالانزلاق نحو التحيز والانتقاء المتعمد الذي يحرف الحقائق، وإلى من يعتقد في أن كل ما في الروايات من صنع الخيال، أن يقرأ ما كتبه «الإخوان المسلمون» عن تجربتهم في سجون عبد الناصر، وما كتبه الشيوعيون عن عذابهم المرير في سجون صدام... وليتجول في السير الذاتية للمناضلين أو الرافضين العرب من المحيط إلى الخليج، سيجد أينما حل «زنازين»، كما تسمى في مصر، أو مهاجع كما يطلقون عليها في العراق والشام.

أما المتفائلون ممن لديهم العزم والجرأة على تحدي كل هذا دفعة واحدة، فسيهدمون الجدار الأول في زنازيننا، فتنقص الحمولة الثقيلة الجاثمة فوق ظهورنا، ويكون بوسعنا أن نزيد من تلاحق خطواتنا إلى الحرية، خاصة إن كنا عازمين على هدم الجدار الثاني.

والجدار الثاني صنعه تجار الدين، الذين استغلوا حاجة الناس الروحية وإيمانهم العميق برب السموات والأرض، وراحوا يشيّدون حائطاً عريضاً بينهم وبين جلال النصوص ومقاصد الشرع، بتأويلات بشرية، ادعى أصحابها أنها صحيح الدين، وما هي إلا محض اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ.

وإذا ما تمكنا من هدم هذا الجدار عبر التفريق بين «الإلهي»

و«البشري» والوصول مباشرة إلى النص المؤسس، حسب وصف أدونيس في كتابه المثير للجدل «الثابت والمتحول» الذي أختلف مع كثير مما ورد فيه فسيكون علينا أن نواجه الجدار الثالث المتمثل في ما توارثناه من عادات وتقاليد اجتماعية بالية، مثل تقدير مكانة الشخص بجذوره العائلية وليس بما حقق من إنجاز، واعتبار صاحب المنصب الرسمي، حتى لو كان لصاً ومنافقاً، أهم مكانة وأرفع وضعاً ممن لم يحظ بالمناصب حتى لو كان عالماً فذاً أو مبدعاً موهوباً، أو حتى مجرد مواطن بسيط لكنه شريف ونظيف اليد ومعطاء.

ولا يتسع المقام هنا لأحصي عشرات العادات التي يجب وأدها، وإن كنت أقول إن هناك من التقاليد ما يجب أن نعض عليها بالنواجذ، وكنت أعتقد في أن القديم لا يمكن أن يموت كله، كما يقول عالم الاجتماع الروسي بوريس كاجارليتسكي. وفي الوقت نفسه فهناك من العادات ما يشكل عقبة كبيرة أمام بلوغ سقف كاف من الحرية، حتى تخف حمولة الزنازين التي نحملها فوق ظهورنا.

فإذا تخطينا الجدار الثالث هدماً أو عبوراً، كان علينا أن نواجه الجدار الأكثر ارتفاعاً والأكبر سمكاً، وهو ما في أنفسنا من قيود، تقفز رقيباً ذاتياً لحظة الكتابة، وتلعثماً وقت المجاهرة بالحق والصدق، وقعوداً إذا دعا الداعي إلى يوم الحرية الأكبر، ولامبالاة في مواجهة ظاهرة «الفرز العكسي» في مؤسساتنا التي تثيب ضعاف الإمكانات وتحط من قدر المتمكنين، لا لشيء سوى لأنهم معتدّون بأنفسهم، غيورون على المصلحة العامة. كما يمتشق هذا الجدار الداخلي حين نضعف أمام ملذات الدنيا، فيتحول الإنسان لدينا إلى سلعة، والسلعة إلى قيمة عظمى، وننسى أن الله قد خلق الأشياء لخدمتنا، ولم يخلقنا لخدمتها.

وحين تسقط هذه الجدران الأربعة نكون قد وسعنا الزنازين، بالقدر الذي يجعل أعناقنا بوسعها أن ترى حواف السجن الكبير، لنرفع من سقف شعارنا فيصبح: «حريتنا أن نهدم السجن ونجعل السجان يتسول الغفران».

 

كاتب وباحث مصري

back to top