Ad

ظلّت الثقافة العربية السائدة تنكر التنوع الثقافي وتتجاهل وجود ثقافات فرعية، وأحياناً تسعى إلى تدجينها أو احتوائها، بما يؤدي الى إضعاف وحدة المجتمعات وتماسكها الاجتماعي، ناهيك عن أمنها القومي. وتفتح تلك المناهج والسياسات نافذة للتدخل الأجنبي وتكون مصدراً محتملاً لاستقواء فئات داخلية واحتمائها بالقوى الخارجية ضد مبدأ الشراكة الوطنية، الذي يستهان به من جانب بعضهم.

تطرح مسألة التنوع الثقافي في المجتمعات العربية، وخصوصاً منذ نشأة مفهوم الدولة الوطنية، عدداً من التساؤلات المهمة ذات الصلة بالسلام الأهلي المجتمعي، ووحدة الكيان الاجتماعي وتماسكه وأفقه ومستقبله إيجاباً أو سلباً... فهل التنوع الثقافي مصدر غنى أم فتيل أزمات؟

السؤال الأول يتعلق بـ: هل الاهتمام بالتنوع الثقافي كان كافياً منذ عهد الاستقلالات أي مرحلة ما بعد الاستعمار، خصوصاً التنوّع القومي والإثني والديني والطائفي والسلالي واللغوي في المجتمعات العربية؟ وإذا كان الجواب بالسلب، فسيترتب عليه بعض الأسئلة والتساؤلات الأخرى منها:

السؤال الثاني: لماذا كان التجاهل لطبيعة التنوّع والتعددية الثقافية أو عدم الاعتراف بها أو التقليل من شأنها، سمة مميزة للأنظمة الشمولية والمستبدة ثوروية كانت أم محافظة؟

السؤال الثالث: هل أفضى الإنكار أو التنكر أو عدم الاعتراف بالحقوق إلى وحدة ونقاء هذه المجتمعات أم إنها زادتها إشكالية وانقساماً، بدلاً من وحدتها وتماسكها، وفي بعض الأحيان حين يتم اضطراراً وليس اختياراً الحديث عن التنوّع والتعددية، فإن النظرة المسبقة الارتيابية الاستعلائية تظل هي السائدة، ولذلك فإن الحصيلة السلبية وعدم الثقة هما الطاغيان!

السؤال الرابع يتعلق بـ: لماذا يتم التعامل مع مسألة التنوّع الثقافي بالعموميات، بل غالباً ما يجري بالشعارات المركزية الكبرى دون الاعتراف بالحقوق؟ كأن تتصدر قضية المصير المشترك والأمن القومي والتنديد بالإمبريالية والتشبث بوحدة المجتمع والدولة وغير ذلك، باعتبارها تمثل الأولوية، بل والقدسية أحياناً، على حساب الحقوق والحريات والإقرار بالتعددية والاعتراف بالتنوّع، وما عدا ذلك سوى جزئيات وتفاصيل يمكن تجاوزها. وبغض النظر عن أهمية هذه الشعارات فإنها من دون تلبية الحقوق والحريات للجماعات القومية والدينية واللغوية وعدم الاعتراف بالتعددية الثقافية، ستكون شيئاً آخر.

السؤال الخامس: لماذا تتقدم قضية «الوحدة»؛ وحدة الدولة، وحدة المجتمع حتى إن كانت قسرية أو فوقية أو تسلطية، على حساب الحقوق والحريات والمساواة التي تصبح مسألة قيد النظر، أما المركزية والاستعلاء القومي والثقافي فيصبحان شيئاً مقدساً؟! فهل يمكن استمرار هذه الحال الى ما لا نهاية؟!

يذهب بعض المتأسلمين الى اعتبار المسلمين (المواطنين) متساوين كأسنان المشط، وأن التنوع القومي أو الاثني أو اللغوي أو الثقافي ليس سوى بدعة وضلال، وأن الحل هو وحدة الانتماء الاسلامي، أي بالوحدة الإسلامية وإلغاء الفروق والتمايزات، أما بعض القوميين التقليديين فقد غلبت عليهم نزعة تعظيم القومية الكبرى على حساب الأقوام الأخرى. فمن عاش في الأرض العربية (المقصود الدولة-الأمة) وكانت لغته عربية، فهو عربي بغض النظر عن دينه أو حتى قوميته أو عرقه، بل رغما عنه أحياناً. ويذهب بعض الماركسيين الكلاسيكيين إلى اعتبار مصالح الكادحين (الدولة الاشتراكية البيروقراطية لاحقاً بما فيها فرعها للتحرر الوطني)، هي الأساس على حساب حقوق الأقليات التي يتم الاعتراف بها شكلياً، حتى إن اتخذ الأمر بُعداً قانونياً أحياناً، لكن الفجوة تظل قائمة والتمييز يصبح ظاهرة من الناحية الفعلية حتى إن غُلِّف بشعارات برّاقة.

السؤال السادس: هل هناك مفهوم متبلور للتيارات الأساسية القومية، والماركسية، والإسلامية من الأقليات الدينية والقومية؛ كالموقف حيال حقوق المسيحيين، والأكراد، والتركمان، والبربر (الأمازيغيين)، والشركس، وسكان جنوب السودان، والأرمن وغيرهم؟ وهل يحق لأفراد الأقليات غير الإسلامية أو غير العربية تقلّد المناصب العليا في الدولة (رئاسة الدولة والجيش والقضاء وغير ذلك)؟!

السؤال السابع: هل صحيح أن الأقليات عرضة للتأثير الخارجي منذ حروب الفرنجة، وهل السبب يعود الى أن ولاءهم هو للخارج أم الى هضم حقوقهم والتمييز ضدهم؟ إذن هل يبقى الشك في ولائهم إلى ما لا نهاية أم إن تلبية الحقوق وتأمين مستلزمات المساواة كفيلان بقطع دور التأثير الخارجي؟ وكيف السبيل إلى دولة عصرية يكون فيها المواطنون متساوين بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو غير ذلك؟!

السؤال الثامن: لماذا الكردي والمسيحي والأمازيغي الذين يعيشون في «المنطقة العربية» منذ مئات وآلاف السنين مشكوك في ولائهم في حين أن كيسنجر وبريجنسكي وأولبرايت وساركوزي وغيرهم من أصول لا علاقة لها ببلدانهم الحالية؟ّ! لماذا إذن يُطعن في ولائهم أو انتمائهم أو هويتهم، في حين أن شاعراً كبيراً بثقل الجواهري ولد قبل ولادة الدولة العراقية بأكثر من عقدين من الزمان وقال الشعر قبل ميلاد دستورها الأول، كانت تصوّب ضده الحملات بين الحين والآخر بحجة أصوله غير العربية؟! وهو الذي قدّم خدمات جليلة للغة العربية، بل للأمة العربية وتاريخها؟!

ولنعد السؤال على نحو آخر: هل العامل الخارجي هو السبب في عدم الاعتراف بحقوق الأقليات أم إن هناك نظرة قاصرة أساساً إلى الحقوق والحريات الإنسانية؟!

السؤال التاسع: لماذا لا يتم بحث مسألة التنوع والتعددية في إطار مبدأ المواطنة الكاملة والمساواة التامة -ركنا الدولة العصرية- وعلى قاعدة حقوق الإنسان محور التطور الحقيقي للمجتمعات الساعية الى تحقيق العدالة؟

إذا كانت المواطنة مع الاعتراف بحقوق الأقليات، وخصوصاً القومية منها، تشكل مدخلاً لحل مشكلة التنوع... فهل مسألة الحكم الذاتي أو اللامركزي الإداري الفدرالي (الاتحادي) ستكون استحقاقاً مناسباً مع قبول التغيير والإصلاح الديموقراطي وفي إطار هوية عامة شاملة مع الاحتفاظ بالهوية الصغرى، باعتبارها استكمالاً وتعبيراً عن حقيقة التنوّع القومي والثقافي والديني وغير ذلك؟

السؤال العاشر: هل الثقافة العربية موحّدة، أو واحدة، أم ان هناك تنوّعاً وانفتاحاً نابعين من حقائق حياة المجتمعات العربية، أم إنها تحصيل حاصل لتنوّع مشارب الثقافة العربية ومصادرها، خصوصاً لأن الوطن العربي مصدر لاستقطاب للحضارات والثقافات والأقوام والديانات المختلفة؟!

لقد ظلّت الثقافة العربية السائدة تنكر التنوع الثقافي وتتجاهل وجود ثقافات فرعية، وأحياناً تسعى إلى تدجينها أو احتوائها، بما يؤدي الى إضعاف وحدة المجتمعات وتماسكها الاجتماعي، ناهيك عن أمنها القومي. وتفتح تلك المناهج والسياسات نافذة للتدخل الأجنبي وتكون مصدراً محتملاً لاستقواء فئات داخلية واحتمائها بالقوى الخارجية ضد مبدأ الشراكة الوطنية، الذي يستهين به بعض الذين يدَّعون تمثيلهم «القومية الكبرى» أحياناً، في حين يتعين على القوميات والأقليات الصغرى التي تعمل لنيل حقوقها احترام حقوق القوميات الكبرى أو القوى الكبرى في مجتمعاتها، لتفعيل خصوصيتها والحفاظ على هويتها في إطار الهوية العامة الكبرى!

* كاتب ومفكر عربي