يفرد الشيخ سيد إمام البند السادس من وثيقته لقضية شديدة الأهمية في الواقع العملي الإسلامي حالياً، وكلفت كثيراً من المجتمعات والدول المسلمة أثماناً باهظة خلال العقود الثلاثة الماضية، وهي «الخروج على الحكام في بلاد المسلمين. ولم يكتف ِالشيخ بعرض أدلته المتنوعة المؤيدة لحكمه العام والمطلق بالنهي عن ذلك الخروج، بل زاد عليها أن أفرد التنبيه الثاني الوارد في آخر الوثيقة لكي يطبق عليه ذلك الحكم، فيما يخص بلده مصر، ويوضح «الأسباب الشرعية والواقعية التي تدعو إلى عدم الصدام مع السلطات» فيه، حسب عنوان هذا التنبيه.

Ad

ويبدأ المؤلف تناول القضية في البند السادس بعرض الحوادث الأولى للخروج على الحاكم في صدر الإسلام، مثل خروج الحسين بن علي وابن الأشعث، بسبب مظالم الحكام حينذاك، وذلك أخذاً بعموم أحاديث تغيير المنكر باليد.

ويرد الدكتور فضل على ذلك بأن تطبيق هذه الأحاديث على العلاقة بين الحاكم عند ظلمه والرعية لا يجوز، ذلك لأن تغيير المنكر باليد قد يكون جائزاً بين الرعية، لكنه لا يجوز مع الحاكم لوجود نهي خاص عن ذلك في أحاديث الرسول (ص) وهو مقدم هنا على الأمر العام الوارد في أحاديث تغيير المنكر باليد.

وينتقل بعد تحريم الخروج على الحاكم الظالم إلى الحاكم الكافر كفراً بواحاً، فيميز بين العلم بكفره وبين وجوب الخروج عليه، فالأخير «لا يجب عند العجز أو إذا غلبت المفسدة في الخروج، خاصة إذا كانت المفاسد جسيمة أعظم وخارجة عن المألوف في الجهاد».

وينتقل بعد إطلاق ذلك الحكم المهم إلى الواقع العملي خلال العقود الماضية التي شهدت حوادث خروج على الحكام في بلاد المسلمين باسم الجهاد ومن أجل تحكيم الشريعة، وقد أدت إلى «مفاسد عظيمة على مستوى الجماعات الإسلامية وعلى مستوى البلاد التي وقعت فيها»، وهو ما ينطبق عليه القاعدة الفقهية أن «الضرر لا يُزال بمثله».

وفي هذا السياق، يعود المؤلف مرة أخرى إلى ما ذكره في البنود السابقة لوثيقته فيما يخص الخيارات العديدة المتاحة أمام المسلم للعمل بها لمواجهة الواقع غير الشرعي، مثل الدعوة والهجرة والعزلة والعفو والصفح والإعراض والصبر على الأذى وكتمان الإيمان، وليس الجهاد هو الخيار الوحيد، وقد عمل النبي بكل هذه الاختيارات وكان انحيازه لأحدها قائماً على معايير ثلاثة هي: الاستطاعة وظروف الواقع وما ينفع الدين وأهله ولا يعود عليهما بالضرر أو المفسدة.

ومرة أخرى يعود الشيخ إلى مناقشة خيار الصدام باسم الجهاد مع الحكام التاركي الحكم بالشريعة، سواء كان ذلك منهم كفراً بواحاً أو كفراً من دون كفر أو معصية، لكي يؤكد على ما سبق ذكره في بنود الوثيقة السابقة من مقومات الجهاد التي تعتبر من شروط وجوبه ويؤدي انعدامها إلى سقوط هذا الوجوب، مثل دار الهجرة والنصر أو دار الأمن أو القاعدة الآمنة والنفقة اللازمة وتأمين عائلات المسلمين وتكافئهم مع عدوهم وغيرها وتميز الصفوف بما لا يؤدي لقتل من لا يحل قتله، لينتهي إلى أن «كل هذه المقومات مفقودة بما يجعل الجهاد لا يؤدي النتيجة المرجوة من إظهار الدين وتحكيم الشريعة».

وهنا يعرض المؤلف المحظورات الشرعية التي وقع فيها الذين حاولوا الالتفاف على نقص تلك المقومات في عصرنا الحاضر، فيذكر منها قتل المعصومين بدعوى التترس، واستحلال الأموال بدعوى تمويل الجهاد، والغدر بالكفار في بلادهم ممن دخلها بإذنهم، والعجز عن تأمين عائلات وأولاد المسلمين.

ويذكر الشيخ بعد ذلك مثلين آخرين لا يبدوان في الحقيقة ضمن المحظورات الشرعية بقدر ما هما نتائج سياسية، الأول منهما هو «تلقي أموال والاستعانة بأنظمة حكم في دول أخرى ليست بأفضل حال من بلدانهم لقتال أهل بلدهم، بما أوقعهم في فخ العمالة وحروب الوكالة»، والثاني هو «اضطرار البعض إلى عمل لجوء سياسي لدى الدول الأجنبية (بلاد الكفار الأصليين)، فيكون بذلك قد دخل تحت حكم الكفار باختياره، في حين أن القوانين المخالفة للشريعة تجري عليه في بلده بغير اختياره».

وعلى الرغم من أنه ينتهي فيما يخص اللاجئين لدول أجنبية إلى أنهم ليسوا مرتدين أو كفاراً، فمن الواضح في هذين المثلين الأخيرين غلبة الاعتبارات الواقعية على الشيخ عبد القادر أكثر من الاعتبارات الإسلامية الشرعية التي ميزت معظم صفحات وثيقته. ويختتم الرجل هذا البند بالتأكيد على أنه وفقاً لكل ما سبق فالصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين لأجل تحكيم الشريعة غير واجب، سواء كان باسم الجهاد أو باسم تغيير المنكرات باليد، بما في ذلك عدم جواز التعرض بالأذى لقوات الأمن والجيش التابعة لتلك السلطات، محدداً في النهاية اختياره للاشتغال بالدعوة وتقريب المسلمين من دينهم كوسيلة أجدى نفعاً من الصدام الذي لم يُقِمْ ديناً، ولا أبقى على نفوس من خاضوه، ولا حافظ على بلادهم من المفاسد والخراب.

وعلى هذه القاعدة النظرية ينتقل الشيخ في التنبيه الثاني ليضعها موضع التطبيق في الحالة المصرية. وفي البداية يعود الدكتور فضل إلى عام 1992 حين كان أميراً لجماعة الجهاد - التي لم يذكرها بالاسم - ورفض الصدام مع السلطات الحاكمة وقواتها في مصر، لأن ذلك لن يحقق المصلحة الشرعية المقصودة وهي تحكيم الشريعة، فخالفت الجماعة رأيه فتركها وكل الجماعات الإسلامية الأخرى.

ويعاود المؤلف في ظل تذكيره بهذه الواقعة بالمعطيات الشرعية والواقعية التي بنى عليها موقفه بعدم الصدام مع السلطات المصرية. فمن الناحية الشرعية، يذكر مرة أخرى بمقومات الجهاد التي هي من شروط وجوبه، التي يرى أنه لا وجود لها في معظم البلدان، لاسيما مصر والسابق ذكرها آنفاً، لينتهي إلى أنه «لا يجوز شرعاً الإصرار على خيار الصدام مع السلطات لأجل تحكيم الشريعة، ويجب الانتقال إلى الخيارات الشرعية الأخرى الميسورة كالدعوة والإصلاح ونحوها، خاصة أن التجارب السابقة أظهرت مفاسد جسيمة ترتبت على هذا الصدام على المستويين الخاص والعام».

وبالانتقال إلى الناحية الواقعية، يفاجئنا الشيخ بمنهجية مختلفة في تحليل الحالة المصرية التي يتحدث عنها، وهي المنهجية التاريخية والتي يقدمها بأنها واجب شرعي، حيث إن الله قد ذمّ من لم يعتبر بالتاريخ، «ومن الناحية الأصولية فإن الذم لا يكون إلا على ترك واجب». ولا يكتفي الشيخ في هذا السياق بالاستعانة بآيات قرآنية لتأكيد وجوب القراءة التاريخية، بل يذهب للاستعانة ببعض مقولات المؤرخ المعروف عبد الرحمن الجبرتي التي تؤكد أن «دراسة التاريخ وقراءته تجعل القارئ أكثر عقلاً». وعبر تلك المنهجية التاريخية ينتهي الشيخ فيما يخص تغيير النظام السياسي والاجتماعي بمصر إلى أنه لم يتم سوى بإحدى طريقتين: إما الغزو الخارجي الذي تتابعت على مصر حلقاته، أو التغيير من داخل السلطة الحاكمة نفسها، ويضرب هنا ثلاثة أمثلة أولها ما قام به صلاح الدين الأيوبي الذي كان وزيراًَ في الدولة الفاطمية الشيعية وأسس الدولة الأيوبية السنية، وثانيها تجربة محمد علي باشا الذي كان ضابطاً في الجيش العثماني واستولى على ولاية مصر لنفسه، وآخرها تجربة جمال عبد الناصر الذي غير النظام من قلب جيشه الذي كان ضابطاً به. ويلاحظ هنا أن الدكتور فضل ينتهي في تلك القراءة إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها وإخوانه في التيار الجهادي المصري في مرحلة عنفهم، وهي أن التغيير يجب أن يتم من أعلى ومن رأس السلطة وليس من أسفل ومن المجتمع، وهو ما كان يدفع أعضاء الجهاد في سابق عهدهم إلى التركيز على التجنيد من داخل الدولة وجيشها وعلى استهداف قيادتها العليا والتخطيط دوماً لانقلاب مفاجئ يطيح بها، وليس على العمل المتعدد الأبعاد في المجتمع كما كانت تفعل الجماعة الإسلامية.

إلا أن هذا التشابه في طريقة النظر إلى كيفية التغيير في مصر بين مرحلتي الشيخ السابقة والحالية، لا يعني أنه يؤيد في الوثيقة فكرة الصدام مع النظام، فهو بعد جزمه بأن لا طريق ثالث لتغييره غير الطريقين الذي ذكر، يؤكد على أن الجماعات الإسلامية تعجز اليوم عن سلوك أيهما، فهي ليست من أهل السلطة ولا تستطيع الغزو الخارجي. بل ويذهب في حكمه إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن الحركات الشعبية كلها بما فيها الإسلامية لم تغير النظام في مصر على مدى التاريخ، وبالتالي فإن الاعتبار بالتاريخ يوجب عدم تجربة ما لا جدوى منه بل مفاسده غالبة. ذلك عن قوى التغيير في مصر كما يستخلصها الشيخ من قراءته التاريخية، أما عن وسائله فهو يستند فيها إلى القاعدة الفقهية «الميسور لا يسقط بالمعسور»، ومن ثم إذا كان التغيير باليد متعسراً فإن الواجب والممكن الآن في مصر هو التغيير باللسان عن طريق الدعوة بصورها المختلفة وفي أدنى الأحوال بالقلب وهو إنكار المنكر. وينتقل الشيخ مرة أخرى في ختام هذا التنبيه المهم إلى منهجية قراءة التاريخ لكي يصوغ ما شهدته مصر عبر تاريخها فيما يمكن تسميته «الحتمية التاريخية القدرية»، حيث يرى أن «التاريخ هو سنن الله القدرية» ومن ثم فلا مجال لتغيير هذه السنن في المستقبل. ومرة أخرى يستعين الشيخ لتأكيد هذه القراءة الحتمية لتاريخ مصر وحاضرها ومستقبلها ببعض المعطيات الجغرافية والتاريخية التي تستند إليها بعض مدارس التأريخ، مثل طبيعتها «كدولة مركزية تمتد سلطتها إلى أعماق البلاد وأطرافها لضبط الري وجباية الخراج كدولة نهرية، وامتداد السلطة إلى الأطراف كفيل بإجهاض المعارضة الشعبية في مهدها».