فاجأني أبو مازن بقوله: «لقد استطاعت الصنارة الأميركية أن تلتقط الحوت المصري، ولذلك فإنه علينا ألا نبقى نراهن على الأسماك العربية الصغيرة»في فبراير العام 1979 أمضيت مع محمود عباس (أبو مازن)، الذي كان وقتها بالإضافة إلى عضوية مركزية «فتح» يشغل منصب رئيس دائرة العلاقات الخارجية في منظمة التحرير الفلسطينية، ليلة طويلة في مدرسة علوي في شمالي طهران التي جرى تحويلها الى مركز للإمام الخميني، رحمه الله، بعد عودته إلى بلاده من فرنسا ليهدم عرش الطاووس وليسقط مملكة آل بهلوي وليقيم الجمهورية الإسلامية التي تعتبر إقامتها ثاني أهم حدث في القرن العشرين بعد إسقاط الثورة البلشفية في العام 1917 لإمبراطورية آل رومانوف وإقامــة الإمبراطورية السوفييتية (الشيوعية).
كان (أبو مازن) جاء إلى طهران في إطار وفد فلسطيني برئاسة ياسر عرفات لتهنئة الإمام الخميني بانتصار الثــورة، التي لم تكن قد استكملت انتصارها بعد، وشعرت في تلك الليلة الطويلة، التي تم في الهزيع الأخير منها إعدام عباس هويدي والجنرال نصيري، ونحن نتقاسم « بُرْشاً» من بعض «البطانيات» المفروشة على الأرض على طريقة نزلاء السجون، أنه كان أقل تفاؤلاً من (أبو عمار) الذي بقي يردد بعد وصوله إلى طهران بأن عمق الثورة الفلسطينية أصبح يصل إلى أصفهان!
لم يُبدِ (أبو مازن) أي حماس للثورة الخمينية، التي كانت قد حققت ذلك «الانتصار التاريخي» ويومها وبعد أن سمعنا أصــوات الرصاص الذي أطلق على صدرَي الجنــرال نصيري (مدير السافاك في عهد الشاه محمد رضا بهلوي) وعباس هويدي (رئيس الوزراء الأسبق)، فاتحني بما لم أكن أتوقعه منه في تلك الفترة المتقدمة وجمهورية (أبو عمار) في الفاكهاني في بيروت الغربية لاتزال في ذروتها... لقد قال محمود عباس: « لا ثقة لي بكل هذا الذي يحدث... لقد جربنا كل شيء ولم ننجح ولذلك فإنه لم يعد أمامنا إلا قرع أبواب السلام فعسى أن نحصل على ما لم نستطع الحصول عليه بالمراهنة على البنادق وعلى ثورات الآخرين وانقلاباتهم العسكرية».
في تلك الفترة كان الرئيس السادات قد وصل إلى نهاية الطريق الذي سار عليه بعد حرب أكتوبر 1973، وقد قال (أبو مازن)، الذي لم يكن يتوقع إطلاقاً أن يصبح خليفة ياسر عرفات، في مجال الدفاع عن فكرته التي فاجأني بها وأمضينا ليلتنا الطويلة ونحن نتجادل بشأنها: «لقد استطاعت الصنارة الأميركية أن تلتقط الحوت المصري ولذلك فإنه علينا ألا نبقى نراهن على الأسماك العربية الصغيرة».
عاد وفد (أبو عمار) من طهران بعد أول زيارة إليها بطائرة الشيخ زايد الخاصة، رحمه الله، ومعنوياته تلامس غيوم السماء، ثم بعد ذلك بقيتُ كلما التقيت (أبو مازن) نتحدث في تطورات العملية السلمية التي بدأت في هيئة اتصالات سرية مع اليسار الإسرائيلي، ثم انتهت إلى اتفاقيات «أوسلو» وقيام السلطة الوطنية وأحداث السنوات التي تلت العام 1993، ومنذ ذلك الحين وحتى هذه الأيام.
الآن وبعد كل هذه التطورات، وآخرها انقلاب غزة الذي حقق للإسرائيليين ما لم يستطيعوا تحقيقه خلال أكثر من أربعين عاماً، ها هو (أبو مازن) الرجل الواقعي يقف في الممر الضيق ويتحمل مسؤولية جسيمة لم يكن يتوقع أنه سيتحملها بمفرده عندما فاتحني بأفكاره وتصوراته في تلك الليلة الطويلة من فبراير العام 1979... والسؤال هنا هو: هل يا ترى سيستطيع هذا الرجل المضي بهذا الحمل الثقيل ويوصل الفلسطينيين إلى شاطئ الأمان؟!
لا شيء يدعو إلى التفاؤل على الإطلاق، فالوضع الفلسطيني لم يكن في هذه الحالة من التشظي في أي يوم من الأيام... والوضع العربي أسوأ من الوضع الفلسطيني على سوئه... والوضع الدولي أسوأ من الوضع الفلسطيني والوضع العربي... فهل سينجح (أبو مازن)؟!
كاتب وسياسي أردني