Ad

في هذه الحلقة، يروي الكاتب تفاصيل «المهمة الصعبة» التي طُلب منه نقلها الى صدام رداً من الأميركيين على إحدى مبادراته. فالرسالة كانت واضحة، وتقول إن واشنطن تريد العراق «جسدا بدون رأس»، وكان من الصعب على أي شخص نقل عبارة كهذه الى الطاغية... علماً أنها كانت تدل على بداية سقوط نظامه البائد.

كنت، كعشرات غيري، أداة في لعبة صدام من دون أن أدري بالطبع، في ما يتعلق بـ«التحرش إيجابياً» بالأميركيين.

ففي عام 1993 تلقيت «تعليمات» منه، عبر طارق عزيز وفاروق حجازي مجتمعين هذه المرة، بالسفر الى واشنطن ومحاولة التحدث مع مسؤولي الادارة الأميركية كموفد رسمي، غير معلن، لبغداد.

وللتأكيد على صدقية مهمتي، باستطاعتي أن استخدم جواز سفري العراقي الدبلوماسي والتي اضيفت إليه عبارة «مستشار في ديوان الرئاسة». العرض الذي سأحمله معي مؤلف من ثلاث نقاط: الأولى تتعلق بأسلحة الدمار حيث أقول للأميركيين ان صدام يرحب باستقبال خبراء أميركيين، بشكل سري، يشرفون مباشرة على تدمير هذه الأسلحة مع برنامجها، مع تعاون كامل من قبل صدام. كذلك يرحب باستقبال أي فريق استخباراتي أميركي يرافق هؤلاء الخبراء مهما كان عددهم وعدّتهم. وكانت تلك اشارة واضحة الى الترحيب بفريق ينتمي الى الـ «CIA».

بالنسبة إلى النقطة الثانية فهي تتعلق بالصراع العربي-الاسرائيلي. وقيل لي ان أبلغ الاميركيين بأن ما هو مقبول لمنظمة التحرير ولرئيسها ياسر عرفات مقبول للعراق ولرئيسه صدام حسين. وكان هذا تغييرا رئيسيا في سياسة العراق يعلن للمرة الاولى، ولكن بشكل سري. طلب مني طارق عزيز ان اؤكد ما يلي: ليس هناك صراع مباشر بين العراق واسرائيل. ان العراق ليس بلداً حدودياً مع اسرائيل، وان موقف العراق من اسرائيل نابع من موقفنا تجاه القضية الفلسطينية بشكل خاص، والموقف العربي بشكل عام. وإذا رضي الفلسطينيون بصيغة حل، فإن العراق يعد بأنه لن يقف في وجه تنفيذه. هذا التصريح المقتضب يناقض بصورة كاملة شعارات حزب «البعث» المعلنة منذ تسلمهم الحكم في عام 1996. النقطة، أو بالأحرى «الجزرة» الثالثة التي كان عليّ أن أحملها من بغداد وأقدمها على مائدة الاميركيين تتعلق بالنفط وبالثروات العراقية الاخرى، المكتشفة، او التي هي على طريق الاكتشاف. طُلبَ مني ان أقول ان العراق مستعد لتعاون كامل مع شركات النفط الاميركية، في إطار التعامل الدولي المعروف، خصوصا في تطوير آبار النفط المكتشفة حديثاً، والوصول الى تفاهم بشأن استثمارها. ان الدراسات الجيولوجية العراقية تثبت أن العراق هو الثاني في امتلاك أكبر مخزون نفطي استراتيجي بعد الاتحاد السوفياتي وليس السعودية. ربما السعودية هي أكبر منتج للنفط في العالم، لكن العراق يملك مخزوناً أكبر وأوسع من مخزون دول الخليج مجتمعة. ولدعم هذا القول، طلبت بغداد مني أن أذكر من دون التفاصيل الرقمية اكتشاف كميات هائلة من النفط في الصحراء الغربية الممتدة من الرمادي الى الحدود الأردنية. وفي النهاية عليَّ أن أؤكد للأميركيين أن بغداد مستعدة لفتح محادثات سرية معهم في هذه المواضيع الثلاثة. وعندما سألت طارق عزيز عما إذا كان هناك شروط، قال بحسم: عليك ألا تستخدم كلمة «شروط» في أي من الكلام الذي ستنقله إليهم. لم أدر في حينه السبب، ولا أعرفه إلى الآن. كل ما استطيع أن أقوله في هذا المجال ان هذا العرض كان بمنزلة هجوم صدام الأول في حرب «كسر أنف» الولايات المتحدة.

هناك شخصان مؤهلان لمساعدتي في ايصال هذا العرض. بوب بير ومواري غارت. بوب كان في ذلك الوقت قد انتقل من السفارة الأميركية في باريس الى السفارة في المغرب، وكان يتصل بي بين الحين والآخر شاكياً ضجره. فالمغرب، بالنسبة إليه، كان عبارة عن منفى لا حركة فيه ولا حياة ولا مشاكل ولا ارهابيين. وفي احدى المرات طلب مني مازحاً أن أشجع بعض الارهابيين على العمل في المغرب حتى تدّب فيه الحياة.

لم أناقش مع أي منهما العرض العراقي بالتفاصيل، بل قلت لكل منهما، على حدة، ببساطة انني أحمل عرضاً استراتيجياً من صدام الى واشنطن، وانه طُلِبَ مني أن أسلمه الى دائرة صناعة القرار في العاصمة الأميركية. بوب أبدى تشاؤماً ملحوظاً، وقال: من الصعب أن تجد أميركياً مسؤولاً، مهما كان صغيراً، يوافق على اللقاء بك. القرار اتخذ بمنع فتح أي حوار مع صدام، أو مع أي عراقي له علاقة به لتعويم صدام. حاولت اقناعه. قلت: لكن أنا لست عراقياً. أنا لبناني، صديق للولايات المتحدة، وما الضرر في الاستماع الى ما سأقوله؟ وافقني على هذا المنطق لكنه بقي متشائماً في حصولي على نتيجة ايجابية. قال: ما تقوله منطقي ولكن الأمر لن يكون بالسهولة التي تتصورها.

غارت، بعكس بوب، كان متحمساً للموضوع. رد فعله الأول على مكالمتي الهاتفية كان «لماذا لا تأتي إلى واشنطن ونبحث الموضوع من هنا؟ أنت تعرف أن بعض أصدقائي يشغلون مراكز مهمة. سأتصل بهم. وعلى كل حال فقد أصبح لك بعض المصداقية نتيجة للدور الذي لعبته في اطلاق سراح الرهائن قبل الحرب. أعتقد انهم سيستمعون الى الرسالة التي تحملها. وفي كل الأحوال، فإنك تسدي لهم خدمة في اطلاعهم على ما يفكر فيه صدام. حتى ولو كانت واحدة من مناوراته، فستكون مفيدة لهم.

كان فصل الخريف قد بدأ عندما وصلت الى العاصمة الأميركية وتوجهت رأساً إلى فندق «ماريوت». وخلال ثلاثة أيام، عقدت سلسلة اجتماعات، في الصباح وبعد الظهر، وكانت الأسئلة تنهار عليَّ كسيل من المطر، لكنني تمسكت بمضمون الرسالة التي أحملها ذاكراً أنني حامل رسائل ولست مفاوضاً، ومن الأفضل أن أعود بالرد، مهما كان هذا الرد. أُبلغت بأن موعداً قد حدد لي مع أحد أعضاء مجلس الأمن القومي. وأعطيت اسم سيدة تعمل مستشارة للرئيس بيل كلينتون. كان بوش الأب قد سقط في انتخاب اعادة رئاسته، ونجح خصمه الديموقراطي كلينتون. قبل نصف ساعة من موعد اللقاء اتصلت بي هاتفياً معتذرة عن اللقاء، وقالت: يسعدني أن التقي بك في زيارتك المقبلة. على كل حال، سأرسل شخصاً آخر بديلاً عني وسيعطيك الجواب عن رسالتك. كانت مفاجأة غير متوقعة لا تبشر بالخير. الاجتماع بعضو في مجلس الأمن القومي شيء، وتحويلي الى شخص مجهول شيء آخر. وصل هذا الشخص يرافقه شخص آخر سبق والتقيت به مرتين خلال هذه الزيارة. ذكر لي صراحة عندما قدم نفسه باسم كريس من دون ذكر الاسم الثاني انه يعمل في القسم العراقي في «لانجلي»، مركز قيادة الـ CIA. دخل رأساً في الموضوع بعد أن امتنع عن قبول عرضي بتقديم القهوة لهما. قال: نحن نقدر ونثمن جهودك. نفهم أنك يجب أن تعود الى بغداد بجواب وأنا هنا لأعطيك هذا الجواب: نحن على معرفة تامة بالأهمية الاستراتيجية التي يمثلها العراق بالنسبة إلى الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً. نحن نسعى بل نريد ونرغب بإقامة علاقات ثابتة مع العراق، ولكننا في ما يتعلق بموضوع العرض الذي قدمته لنا باسم صدام، فإننا نريد العراق جسداً بدون رأس.

صمت كريس قليلاً وركز نظرات عميقة على وجهي لعله يريد أن يقرأ تأثير جملته الأخيرة «نريد العراق جسداً بدون رأس»، أو يرغب أن يتأكد من أنني قد فهمت معنى ومغزى هذه الجملة الاستراتيجية. اعترف بأنني اضطربت قليلاً، وربما ظهرت علامات الاضطراب على وجهي، لا خوفا على صدام الذي أصدرت إدارة كلينتون الديموقراطية حكماً بفصله عن جسد العراق، بل لأمور تتعلق بكيفية إبلاغ «المتهم صدام» بأن حكم الاعدام قد صدر بحقه، وأن الادارة الأميركية الجديدة ساعية الى تنفيذه. باختصار، اضطرابي كان عاملاً شخصيا لا علاقة له بالسياسة. ويبدو أن كريس ربما أحس بما أفكر فيه فتابع قائلاً: نحن نفهم خطورة موقفك الشخصي في ابلاغ هذا الجواب الى صدام. انه من النوع الذي يقتل كل من يحمل اليه اخباراً سيئة. إنها مشكلتك في اختيار طريقة وأسلوب إبلاغه هذا الخبر السيئ. ونصيحتي لك أن تتأكد جيداً من انك ستكون بمأمن من غضبه. فنحن نحب أن نراك ثانية هنا أو في أي مكان آخر.

المهمة الصعبة

شعور هو مزيج من الارتباك والخوف سيطر عليّ في تلك اللحظة لدرجة نسيت معها ان أوصل الضيف، مع رفيقه الذي بقي صامتاً مشغولاً بالكتابة في دفتره الصغير، الى الباب. لقد أعطاني كريس أحد أسلحة الدمار الشامل، وعليّ ايصاله الى صدام وربما أكون أنا الضحية الأولى والأخيرة لهذا السلاح. انه سلاح متفجر بالكامل لا علاقة له بالسياسة يأتي من شخص يعمل في (CIA) التي لا تضع القرارات السياسية، بل تنفذها وبأسلوبها المعروف. بعد خروج كريس وروفيقه، قضيت ساعتين تقريباً جامداً على كرسي صالون الفندق الصغير وسؤال واحد يسيطر على كل تفكيري: كيف سأوصل هذه الرسالة الى صدام؟ إنها ليست رسالة. هي في الحقيقة إنذار وحكم بالاعدام. هل أغامر واضع الصورة أمام صدام «بالأبيض وبالأسود» كما تعودت أن أفعل طوال السنوات الطويلة الماضية؟ لكن صدام تغير. لم يعد صاحب الشخصية الطرية كما عرفته في بداية السبعينيات. لقد أصبح شخصاً آخر بعد انتهاء حربه مع ايران. كان «نصف اله» فأصبح كاملاً يمتلك القدرة على الحياة والموت حتى من دون ابداء الاسباب ولمجرد الشك. لا، لن أكون أنا من يحمل «ورقة النعوة» ويضعها أمام عينيه. إنني لن أجرؤ على أن أكون داخل العراق عندما يتسلم صدام جواب الرسالة. الجبن؟ ربما. الخوف. نعم. إن الخوف هو إحساس انساني حتى الحيوان يتملكه شعور الخوف عندما يدركه الخطر فيبعد عنه. لم تعد مشكلتي كيف ألعب دوراً مهما كان صغيراً في تلافي تدمير بلد أحببته، وأحببت شعبه، وما زلت. كل المشكلة تحولت الى كيف استطيع أن انقذ نفسي من هذا الوضع الخطر الذي مشيت اليه بقدمي الاثنتين. كل ما أتمناه الآن، في هذه الساعة، بل في هذه اللحظة أن أطير الى مكان آخر، الى بلد آخر لا يعرفني فيه أحد، الى كوكب جديد خال من الأميركيين ومن صدام. كل ما أرغبه هو احساس بالطمأنينة وبالامان مهما كانت لحظاته قليلة. اصابتني نوبة من التعب الفكري أدخلت الشلل التام الى تفكيري، فارتميت على السرير اشبه بالذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأدرت جهاز تلفزيون الفندق الداخلي، ولحسن الحظ، كان، في تلك اللحظة فيلم وثائقي دعائي عن جزر البحر الكاريبي. اغرقت نفسي في المياه الصافية كعين الديك، والتي تحيط بهذه الجزر. كانت بمنزلة حبة «فاليوم» فعلت فعلها ولكن ببطء، فنام عقلي بينما بقيت عيناي مفتوحتين. وقلت لنفسي: غداً يوم آخر.

في صباح اليوم التالي أخذت سلسلة قرارات، كان أهمها أن أوقف ما يسمى بعلم النفس «جلد الذات»، وبالتالي أن أعود الى العقلانية في البحث عن المخرج خارج اطار الخوف والتردد. كان أول اقتراح قدمته الى نفسي هو أن استخدم فاروق حجازي في نقل الرسالة الى صدام. لكن سرعان ما استبعدت ذلك لمعرفتي بدورة العمل داخل جهاز المخابرات. في الأمور المهمة فإن هناك ثلاثة أشخاص على الأقل يقرؤون ما يكتب من تقارير وأخبار واقتراحات. الشخص الأول هو مدير الدائرة المختصة، وفي الحالة هذه يعني فاروق حجازي. والثاني مدير جهاز المخابرات الذي يرفع ما يقرأ الى الرئيس عبر سكرتيره الشخصي عبد حمود الذي هو الشخص الثالث، ثم يصل الى يد صدام. أن رسالة واشنطن «نريد الجسد دون الرأس» لا تعني الا شيئاً واحداً وهو أن واشنطن أخذت قرارها النهائي بالعمل على الاطاحة بصدام. من الخطورة بمكان أن يصل هذا الخبر الى أي شخص غير صدام، مهما كان قريباً أو مقرباً منه، لأن ذلك قد يُقرأ في الذهن التشكيكي المسيطر على دائرة الحكم في بغداد على أنه دعوة صريحة للانضمام الى مجموعة «المتآمرين»، أو على الأقل يبعث بموجات انهزامية داخل المجموعة المكلفة بحماية صدام. ولعل هذا بعض ما أراده كريس من وراء الرسالة الصريحة حتى يقرأها أكبر عدد ممكن في دائرة صدام الضيقة لربما تفعل مفعولها الايجابي، وإذا حدث هذا فإن اللوم أو الشك يقع على حامل الرسالة. إذا استبعدت فاروق حجازي بشكل نهائي، وقررت أن مضمون الرسالة يجب أن يصل إلى صدام مباشرة، أما بواسطتي أو عن طريق شخص يعتبره صدام كذاته غير قابل لا للتشكيك ولا للخيانة. ثم استبعدت، أيضاً بصورة نهائية، أن أقوم أنا بهذه المهمة، خصوصا أنني لا انتمي الى قبيلة «عنترة العبسي»، ولم ادَّع في يوم من الأيام صفة الشجاعة المتهورة.

الاستعانة ببرزان

وبينما كنت استعرض في ذهني لائحة الأشخاص الذين تنطبق عليهم المواصفات، قفز فجأة اسم برزان ليحتل رأس القائمة. فهو بالنسبة الى صدام، ما زال كامرأة القيصر بعيداً عن الشبهات. كذلك بإمكان برزان أن يدخل على صدام من دون موعد وأن يهمس في أذنه ما يشاء. بالاضافة الى أن صدام يثق بشقيقه الأصغر أكثر مما يثق بابنه البكر عدي، ويملك سلطة الأب عليه، بينما برزان، في شعوره الداخلي، يتصرف كالابن الصغير أمام ابيه الكبير. ولقد أثبت برزان صحة هذه المواصفات في أكثر من مناسبة. إذاً برزان هو الحل الأوحد لمشكلتي. وعندما وصلت الى هذه القناعة، شعرت براحة اعصاب تامة، لكنني لم أتمكن من النوم طوال الرحلة بالطائرة من واشنطن الى باريس. لقد كنت منهكا الى درجة أنني لم استطع أن انقل حقيبتي، من مكان تسلم الحقائب في مطار شارل ديغول، لاضعها في العربة الصغيرة المخصصة لنقل الحقائب، فاستعنت بأحد المسافرين الذي قام بالمهمة مشكوراً.

كانت الساعة تشير الى السادسة والنصف صباحاً، وبرزان، في جنيف، لا يستيقظ قبل العاشرة. الانتظار صعب، خصوصا إذا كانت وتيرة الأعصاب تسير أكثر من مئة مرة من عقارب الساعة. وتحت تأثير ضغط الاعصاب، خالفت قواعد اللياقة، وبحركة لا شعورية توجهت الى أقرب هاتف عمومي في المطار وأيقظت برزان من نومه. ولحسن الحظ قال لي برزان انه يستيقظ عادة في السادسة صباحاً لممارسة رياضة المشي من الثامنة الى التاسعة ثم يتأنق ليكون في مكتبه في العاشرة، وأن لا ضرر أو ضغينة من اتصالي به في هذا الوقت المبكر، خصوصا إذا كان موضوع الاتصال يستأهل مثل هذا «الازعاج». وعندما ذكرت له أنني ما زلت في مطار شارل ديغول قادماً من واشنطن، بناء لتكليف رسمي، وأنني أحمل رسالة في غاية الأهمية أرى أن يطلع عليها في أقرب فرصة ممكنة، «أمرني» برزان بالتوجه فوراً الى جنيف، دون المرور بمنزلي. من يعرف برزان، مثل ما أعرفه، يعتاد على طريقته في الكلام. فهو إذا قال على سبيل المثال «شكرا» فإن الكلمة تصدر بلغة الأمر لا بلغة الكياسة. وقد تسببت «لغته الخطابية الخاصة» بكثير من المشاكل، لعل أقل هذه المشاكل سهولة، ابتعاد الناس عن معاشرته اجتماعياً.

المهم أنني تحليت ببعض القوة، واخذت أول طائرة صباحية الى جنيف بعد أن انتقلت، مع حقيبتي، من مطار شارل ديغول الى مطار أورلي. كان برزان بانتظاري نحو الحادية عشرة ظهراً في مكتب السفارة. قادني رأساً الى غرفة صغيرة ملاصقة لمكتبه الكبير، وكنت أعرف أنه يستخدمها لاجراء المحادثات المهمة لأنها حسب اعتقادي تحتوي على كل أدوات التسجيل والتصوير. رويت له الحكاية من البداية الى النهاية. كان يستمع ويكتب بعض الملاحظات على ورقة السفارة. وعندما وصلت الى رسالة كريس ومضمونها «نريد العراق جسداً بلا رأس»، لاحظت ارتعاشاً خفيفاً بأصابعه التي كانت مشغولة بالكتابة، وبإصفرار مفاجئ غزا وجنتيه. عندها وجدتها مناسبة لتبرير مجيئي اليه وليس الذهاب رأساً الى بغداد.

قلت له: لقد عزمت على ألا أطلع أحداً على مضمون هذه الرسالة المليئة بالألغام لقناعتي بأنها قد تستغل سلبياً ضد الرئيس، أو تخلق جواً من الرهبة غير مرغوب به في هذه الظروف الحساسة. وأنا هنا طالباً مشورتك؛ هل أذهب الى بغداد لابلاغها الى فاروق أو طارق لنقلها الى الرئيس؟ ماذا تشير عليَّ أن أفعل؟ هل هناك امكان أن أنقلها شخصياً الى الرئيس من دور المرور بأحد. أنا أطلب النصيحة، وفي الوقت ذاته اقترح أن تقوم أنت بهذه المهمة.

استعاد برزان هدوءه، وقال لقد فعلت عين الصواب بمجيئك اليَّ. وأوافقك على أن الرسالة مليئة بالألغام، وإيصالها عبر أي شخص آخر قد يساء فهمها وتدفع انت الثمن. من الناحية الأمنية هذه الرسالة لا يجب أن يطلع عليها سوى الرئيس. لقد كلفك بمهمة ونفذتها، ومن واجبك أن تطلعه هو لا أحد غيره على النتيجة.

توقف برزان عن الكلام فترة قصيرة ثم تابع: أترك الموضوع كله لي. سأنقله مباشرة الى الرئيس. اعتبر أن مهمتك قد انتهت هنا في مكتبي. ليس عندي خطط لزيارة بغداد قريباً، ولكن الآن سأذهب للقيام، عنك، بمهمة الابلاغ. وبالانتظار أنصحك بأن تبقى بعيداً عن بغداد. لا تذهب الى هناك الا عندما أقول لك ذلك. ثم منحني ابتسامة رضا عريضة وهو يقول: هل رأيت؟ لقد انقذتك من مشكلة كبيرة. سألته: ماذا لو سألني طارق أو فاروق عن النتيجة؟ قال: لن ترى أياً منهما قبل أن أزور أنا بغداد. قلت: بعد أن تعطيني الضوء الأخضر بالذهاب الى بغداد، ماذا سأقول لهما اذا ما سئلت؟

قال: تقول لهما انك قابلتني وأبلغتني النتيجة، وأنا طلبت منك أن تنسى الموضوع. سيفهمان ذلك.

خمسة أسابيع قضيتها في باريس انتظر الضوء الأخضر من برزان في السفر الى بغداد، بعد أن علمت انه قد سافر الى عاصمة بلاده. وفي الأسبوع السادس اتصل بي من جنيف وقال: تستطيع الآن أن تزور بغداد في الوقت الذي تختاره. كل شيء «تمام».

خلال فترة انتظاري في باريس، وبعد عودتي من واشنطن وجنيف بعشرة أيام تقريباً حدث ما أكد مخاوفي. فقد اتصل بي كريس هاتفياً وسألني: هل أوصلت الرسالة الى عنوانها؟ قلت جازماً نعم... قال ولكن... ولكنك لم تزر بغداد. كيف سلمتها. قلت إذا أردت أن تعلم فالرسالة قد وصلت، وباستطاعتي التأكيد أن صاحبها قد تسلمها. (كنت قد عرفت في ذلك الوقت أن برزان في بغداد). كيف وصلت وحتى ومتى فهذا يتعلق بي. المهم أنها قد وصلت الى الشخص المطلوب.

عندما عدت الى بغداد اجتمعت بحجازي وبعزيز. اخبرتهما عن تفاصيل رحلتي الى واشنطن من دون أن أذكر الرسالة، لكن ذكرت اجتماعي ببرزان في جنيف. كان رد حجازي مقتضباً: لقد عرفت ذلك. برزان أبلغني. سؤال طارق عزيز كان أكثر احراجاً. قال ماذا كانت نتيجة الرحلة؟ قلت له باختصار خجول: النتيجة مع برزان. رد عزيز: هذا صحيح. لقد وضعني برزان في الصورة.

كانت كذبة دبلوماسية بيضاء ما قاله عزيز. لأنني أشك كثيراً أن برزان قد ذكر كلمة واحدة عن الرسالة لشخص غير صدام».

«ما ورد في هذه الحلقات هو جزء من كتاب يشمل كثير من القضايا والأسرار، ويهدف ليس إلى تأريخ تلك المرحلة المآساوية السوداء، بل ربما إلى مساعدة من يريد من المؤرخين تناولها». الكاتب علي بلوط.