حين جاء حزب البعث العراقي إلى السلطة كان مشروعه الثقافي بين يديه يتلخص في نظرية «البعد القومي في الأدب»، أي ان يتوفر النص الأدبي على معالجة واحدة من هذه المشاغل العربية المصيرية، كالوحدة، وفلسطين، والاشتراكية بهوية محلية... وكل ما ينطوي عليه الحزب القومي من شعارات. وككل المشاريع النظرية في السلطة الشمولية عادة ما يكون التطبيق حرفياً، وبالتالي مجحفاً ومُولِّد ضحايا؛ صار أحدنا، نحن الشعراء العراقيين، يحدق في نَصّه علّه يجد فيه ما يتطابق مع عناصر هذا البعد المشؤوم.
كان هذا على الصعيد النظري؛ أما على الصعيد العملي فقد تفتق المشروع عن فعاليات لم نتعرف على مقدار خطورتها إلا في ما بعد: مهرجانات للمثقفين العرب، دعوات فردية للمثقفين العرب، إعلام ثقافي محلي مكرس للمثقفين العرب، وآخر غير محلي له مكاتبه في المراكز الثقافية العراقية في كل العواصم العربية، دعم مالي على الصعيد الفردي وغير الفردي للمثقفين العرب... ومع الأيام صار المثقف العراقي متفرجا، من حيث لا يشعر، على الاحتفاءات الثقافية بالمثقف العربي، صار مراقبا لا مصلحة له ولا حصة، جُيِّرت حصته لمصلحة المثقف العراقي البعثي؛ فهو وحده الذي يقاسم المثقف العربي هذه الغنيمة القومية المُجزية، فصرنا نرى مبهوتين أسماء شعراء وكتّاب بأعينهم تتصدر قائمتنا العراقية دائما، وهم ليسوا أحسن شعرائنا وكتابنا، ثم صرنا نرى أسماءنا تبهت في هذه القائمة... تخفى وتتلاشى. وكنتيجة حتمية لمسار هذا المشروع صارت مهرجانات العالم العربي، ومؤسساته الإعلامية، ودور نشره من المحيط إلى الخليج، لا تقربُنا، نحن الأكثرية الساحقة من الشعراء والكتاب العراقيين، لأن هناك رموزا مألوفة مكرسة للثقافة العراقية على امتداد ثلاثين عاما، طالما تعاملَتْ معها وانتفعتْ منها، واحتفتْ بها. والمؤلم أن علاقات المصلحة هذه سرعان ما صارت عُرفا لا غنى عنه. والذي زاد الطين بلّة، ومنح هذا البعد القومي سحنته الكالحة، أن هذه الأكثرية الساحقة من الشعراء والكتاب العراقيين، وعلى أثر صعود صدام حسين، فَضّلوا الدروب المنسية، إما في الصمت داخل الوطن، وإما في الاحتجاج الأخرس في المنافي البعيدة. وكلا الدربين بعيد عن ضمير المثقف العربي، إن لم يكن هجيناً ومُستنكَراً. وهكذا بدأنا نغرق عميقا في بحار التعتيم الإعلامي المتعَمَّد، أو العتمة الإعلامية غير المتعمَّدَة. ومع هذا الغرق، ومع الانحدار المتسارع للوضع السياسي العربي، والوضع الثقافي العربي، تضاعفت هستيريا المهرجانات الثقافية العربية، وتضاعفت أعداد المثقفين المدعوين، على اختلاف الأجيال العربية، وكأن الجميع قد اتفقوا على تركيب هذا القناع الضاحك المبتهج فوق الوجه الباكي اليائس، وبالقدر ذاته من الإرادة تم الاتفاق على مواصلة الحفاظ على الأمانة التي وضعها صدام حسين وحزب البعث العراقي في أيديهم، أمانة مواصَلة إغفال تلك الشريحة من المواهب البالغة الأصالة والعمق، من شعراء المرحلة الستينية المدهشة وكتابها، والتعتيم عليها. ولا يغيب عن بال القارئ أن هذه الشريحة من المواهب لم تنقطع عن العطاء، ولعلها الأبلغ أصالة وعمقا حتى اليوم، وإذا ما اقتصرْتُ على الشعراء منهم، فكم ستبدو خارطة الشعر العربي المعاصر فقيرةً مُعدَمةً من دون أسمائهم: فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي، فوزي كريم، حسب الشيخ جعفر، ياسين طه حافظ، عبدالكريم كاصد، صلاح نيازي... وآخرين كثر غيرهم. هؤلاء تجاوزوا الستين من أعمارهم، وربما السبعين، ونصوصهم بلغت أنضج مراحلها، قياساً بأي شاعر عربي «مُجايِل». ولكن أسماءهم لم تتجاوز بعد الحدود المُحرَّمة للتعتيم الإعلامي، ولم تبلغ مشارف قائمة الدعوات في المهرجانات الهستيرية؛ مازالوا كما عهدهم مثقفو البعد القومي، موزَّعين في الدروب المنسية: في الصمت داخل وطنهم، أو في الاحتجاج الأخرس داخل المنافي البعيدة. في واحدة من قصائد محمود درويش (مجموعة «لا تعتذر عما فعلت») ترِدُ المناشدة التالية «...الشعر يولَدُ في العراق... فكن عراقيا لتصبح شاعراً يا صاحبي!» ولكن صاحب محمود، على ما يبدو، لم يعد يفهم الشعر كما يفهمه محمود؛ فلم يستجب، ولن يستجيب!.
توابل - ثقافات
الشاعر وتعتيم الإعلام الثقافي
10-01-2008