للرد على اعتراض المهندس القطري راشد السبيعي على مقال «نعم للكنائس في قطر» أقول: قولك بوجود «إجماع» من المسلمين على حرمة إقامة دور عبادة لغير المسلمين لا يسنده الواقع التاريخي ولا الفقهي، بل اختلف العلماء في ذلك، ولو كان هناك -إجماع- على التحريم خصوصاً في منطقة الخليج ما وسع كبار العلماء فيها «السكوت».في مقالتي السابقة «نعم للكنائس في قطر» رحبت بقرب افتتاح أول كنيسة كاثوليكية -مارس القادم- في قطر لـ100 ألف مسيحي من الأغلبية الكاثوليكية، إعلاء للتعايش وتعزيزاً للقيم وتفعيلاً لحرية العقيدة والعبادة وتحقيقاً للمصالح المشتركة وباعتبار أن الدوحة هي الحاضنة لمركز حوار الأديان الثلاثة الذي تم إنشاؤه بتوجيه من علماء يمثلون الديانات الثلاث في مؤتمرات حوار الأديان الخمسة التي استضافتها الدوحة خلال السنوات الماضية، كما انتقدت الذين اعتبروا إقامة كنيسة في قطر «اشمئزازاً» أو «جرحاً» لمشاعر القطريين، وجاء على إثرها ردان: معارض ومؤيد. الرد المعارض للكنائس في قطر وفي منطقة الخليج عامة من المهندس القطري راشد السبيعي وخلاصته: أن الإسلام وإن تسامح مع غير المسلمين في إقامة شعائرهم في الكنائس والمعابد المقامة حالياً في البلاد التي وجدت بها تلك الدور قبل الإسلام، لكن إنشاءها -ابتداءً- لا يجوز استنادا إلى فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية وجاء فيها:
أ - إن علماء المسلمين «أجمعوا» على حرمة إقامة دور عبادة لغير المسلمين عدا البلاد المفتوحة «صلحا» كبعض مدن وقرى العراق والشام ومصر.
ب - وبناء عليه لا يجوز الترخيص لمعبد خاص لعبادتهم ويعبدون آلهتهم في «بيوتهم» من دون مجاهرة.
جـ - كما لا يجوز من باب المعاملة بـ«المثل» السماح بالكنائس، لأن ذلك «مسألة دينية» لا دنيوية ولأن الكنائس «دور الكفر والشرك» بينما المساجد «دور الإيمان والإخلاص».
وبداية فنحن نحترم وجهة نظر الأخ المهندس وهي نظرة شائعة وسائدة لدى الكثيرين كما نقدر الفتوى فهي لعلماء أجلاء وجوابي عنها هو:
1 - القول بوجود «إجماع» لا يسنده الواقع التاريخي ولا الفقهي. ودعاوى الإجماعات الفقهية قديمة وكثيرة والصحيحة منها قليلة ولا سبيل لإثباتها إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة. يقول الإمام الشافعي «لست أقول ولا أحد من أهل العلم: هذا مجتمع عليه إلا لمّا لا تلقى عالما أبداً إلّا قاله لك» ويقول الإمام أحمد: «من ادّعى الإجماع فهو كذّاب، لعلّ الناس قد اختلفوا، ما يدريه؟ لكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك».
2 - اختلف الفقهاء قديماً في بناء الكنائس، يقول أبو عبيد صاحب كتاب الأموال: رأى الفقهاء جواز الكنائس في المناطق المفتوحة -صلحاً- ولا يجوز فيما أنشأه المسلمون، وقال الزيدية: «يجوز لهم ذلك بإذن الإمام لمصلحة يراها»، وما تم فتحه -عنوة- لا يجوز لهم، وقال ابن القاسم «يجوز إذا أذن الإمام) أما محمد بن الحسن الشيباني فقد ذهب إلى التفرقة بين المدن والقرى في أمصار المسلمين، فأما المصر الغالب عليه أهل الذمّة فلا يُمنعون من إحداث ذلك فيه، ثم أضاف: ومشايخ ديارنا يقولون «لا يمنعون من إحداث ذلك في القرى على كل حال» ماذا نفهم من هذا الاختلاف؟
أولا: أنه لا «إجماع». ثانياً: أن «المصلحة» كانت هي «المعيار الحقيقي» الذي اعتمده الفقهاء في اجتهاداتهم وليست «النصوص الشرعية».
3 - إذا رجعنا إلى الواقع التاريخي نجد السير توماس أرنولد يقول «اختلف فقهاء المسلمين في هذه المسألة اختلافاً بيّناً، فبينما «المذهب الحنفي» هو الأكثر تسامحاً نجد «المذهب الحنبلي» الأكثر تشدداً. ثم يضيف ملاحظة مهمة «هذه الفتاوى كانت ضعيفة الصلة بالحقائق الواقعية، فربما اتفق مذهب على عدم السماح بدور عبادة للذميين في المدن التي أسّسها المسلمون، لكن السلطة المدنية -بفتوى من فقيه مصر الليث بن سعد- أباحت للأقباط أن يبنوا كنائس في القاهرة -العاصمة الجديدة- وفي بعض المدن الأخرى»، فلم تكن الاجتهادات الفقهية هي الحاكمة للتعامل مع غير المسلمين عبر مراحل التاريخ الإسلامي.
4 - لو كان هناك -إجماع- على التحريم خصوصاً في منطـقة الخليج ما وســـع كبار العلـــماء فـــيـــها «الســـكوت» وما ذلـــك إلّا لأنـــهم رأوا أنّ هذا الموضوع من موضوعات «السياسة الشرعية» الموكولة لتقدير «ولاة الأمور» حسبما يرون فيها من أوجه المصلحة العامة.
5 - الفتاوى المحرمة لبناء الكنائس في المنطقة -نحترمها- لكنها مجرد ترديد وتقليد لاجتهادات فقهية تاريخية كانت استجابة للظروف السياسية والاجتماعية والأمنية التي كانت سائدة في المجتمعات الإسلامية، حيث مناخ عدم الثقة والتربص والحروب والمؤامرات ومشاعر العداء هو السائد بين المسلمين وغيرهم فكانت قضية «أمن» الدعوة والدولة في الداخل والخارج هي القضية الأولى المؤثرة في البناء الفقهي.
6 - تلك الاجتهادات التي نحترمها تظل اجتهادات بشرية لا عصمة ولا قداسة لها، وهي بحاجة إلى مراجعة نقدية فاحصة تستوحي مصالح المسلمين في عالم اليوم، وتعتمد على مقاصد الشرع والمصلحة، وتخاطب عالماً غير العالم الذي عاش فيه الفقهاء القدامى حيث قسموا العالم إلى دارين «دار الإسلام» و «دار الحرب» وتعالج في ضوء التزام دولنا بمواثيق حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية.
7 - تلك الاجتهادات التي نقدرها لا تستند إلى نصوص شرعية ثابتة، وهي محكومة في النهاية بإطار مرجعي يتمثل أولاً: في القرآن نصوصه وروحه ومقاصده، وثانيا: في الصحيح الثابت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكل ما عدا ذلك فهو اجتهاد بشري يحاكم بالقرآن والسنّة، ولا يُحتجّ به على الإسلام. بمعنى أن نصوص القرآن والسنّة هي التي نحتكم إليها وهي الملزمة لنا دائما وتظل الآراء الفقهية قابلة للنقد والتحليل واستبقاء الصالح منها واستبعاد ما عدا ذلك مع الإيمان بأنها لا تشكّل مرجعية مطلقة لنا.
8 - عندما يقرر الإسلام «شرعية الآخرين» ويلزمنا باحترام «عقائدهم» فأول لوازم ذلك «حرية العبادة» إذ ليس مقبولاً لا شرعاً ولا منطقاً أن نقول بحرية العبادة ثم لا نسمح لهم بدار للعبادة.
9 - أما تقسيم «دار الإسلام» إلى «قسم تم بالصلح» فيجوز فيه الكنائس و«قسم فتح بالحرب» و«قسم ثالث أنشأه المسلمون» فلا يجوز فيها بناء الكنائس فهو مجرد تقسيم «فقهي» لا«شرعي» مثله مثل تقسيم العالم إلى «دارين» ولاأساس شرعياً له، إذ لا يوجد لا في القرآن ولا في السنّة ولا في عمل الرسول والصحابة ما يسنده، وهي تقسيمات اقتضتها ظروف سياسية وأمنية لا غير، وينبغي ألا تؤخذ باعتبارها حكماً شرعياً ملزماً، وقد أصبحت في ذمة التاريخ، إذ لا توجد مثل هذه التقسيمات في عالم الإسلام اليوم، وتلك الديار التي تحدث عنها الفقهاء غير موجودة إلا في كتب التاريخ، ولذلك ينبغي على المسلمين اليوم طيّ كل مأثورات ونتاج تلك المراحل والتقسيمات في ضوء مرحلة تستوجب علينا إقامة التعايش بين الأديان، وبناء على القاعدة الذهبية «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» والقاعدة القرآنية السامية «تبرّوهم» والبرّ أسمى السلوك الإنساني. يجب علينا دائما أن نستحضر الفرق بين «شرع» أنزله الله في محكم كتابه أو على لسان نبيه و«فقه» صنعه الفقهاء وفق رؤيتهم وقراءتهم لواقعهم التاريخي، ويجب ألا يغيب عن أبصارنا النص القرآني والنبوي القاضي بحرية العقيدة والعبادة لجميع أصحاب الملل والأديان. وإن الاختلاف العقدي مشيئة إلهية باقية إلى يوم القيامة يحكم الله فيها.
* عميد كلية الشريعة السابق-جامعة قطر