الهوية والتغريـب

والأهم من ذلك كله هو الأثر السياسي لقضية الهوية والتغريب. إذ تعني الهوية الاستقلال الوطني، والإرادة الوطنية المستقلة، والثقل السياسي، والتمسك بالثوابت الوطنية، والأمن القومي القائم على الجغرافيا والتاريخ والذي يعبر عن الموقع والموقف. تعني الهوية رفض الدخول في الأحلاف السياسية والعسكرية التي تجعل الدول الوطنية ملحقة بالدول المركزية الكبرى، وتبعية الأطراف للمركز كما كان الأمر في حلف وارسو، وكما هو قائم الآن في حلف شمال الأطلنطي ومشاركته في الغزو الأميركي لأفغانستان. تفقد الدول شخصياتها، وتتصف مواقفها السياسية بالميوعة، ويغيب التعاون الإقليمي والاعتماد المتبادل بين دول الجوار. وتفقد قدرتها على التأثير في موازين القوى العالمية، وتعجز عن لعب أي دور مؤثر في السياسة الدولية.مخاطرها بطبيعة الحال في تحدي القوى الكبرى ورغبتها في الهيمنة على الدول الصغرى لتأمين مصادر الطاقة، والاقتراب من روسيا والصين، ومقاومة سياسة الأحلاف كما فعل عبدالناصر في مقاومة حلف بغداد في 1954، والحلف الإسلامي بين طهران وكراتشي في 1965، ورفض إقامة أي قواعد عسكرية في مصر والوطن العربي، وهو ما تفعله الثورة الإسلامية في إيران الآن دفاعا عن حق إيران في الطاقة النووية مثل باكستان والهند شرقا وإسرائيل غربا وامتلاك كل القوى الكبرى غربا وشرقا لها. والدفاع عن الهوية ضد التغريب هو روح القرآن والحديث الشريف تمسكاً بالهوية الثقافية والشخصية المستقلة في سورة الكافرين، «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ». وتتكرر بعض الآيات مثل، «وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ» للتأكيد. كذلك يرفض القرآن موالاة الآخر العدو مثل اليهود والنصارى «وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ». ومن يواليهم يصبح منهم «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ».ويستمر الحديث في رفض الموالاة والتبعية للآخر «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى. قال: فمن إذن؟». وهو سبب كتابة «علم الاستغراب» للتخلص من صورة الغرب كمصدر للعلم كي يصبح موضوعا للعلم، وللقضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي وحد الغرب نفسه بها. وكل حضارة نبت تاريخها وظروفها وعصرها، وللقضاء على عقدة العظمة لدى الغرب، وعقدة النقص لدى الشعوب اللاغربية من أجل حوار متكافئ بين الحضارات يقوم على الأخذ والعطاء، والتعليم والتعلم ضد المعلم الأبدي والتلميذ الأبدي.وكلما اشتد التغريب بكل ما ينتج عنه من قيم الاستهلاك وملذات الحياة والتميع والذوبان والانصهار في الآخر نشأت الحركات السلفية والأصولية للدفاع عن الهوية، والتمسك بالأصالة لدرجة «المفاصلة» بين الأنا والآخر، بين الإسلام والغرب طبقاً لثنائيات الإسلام والجاهلية، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والهداية والضلال. وهي ظروف نفسية نشأت عن تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية في السجون كما حدث لسيد قطب في 1954 وكتابة «معالم على الطريق» الذي يكفّر فيه المجتمع بعد أن كان من دعاة الاشتراكية الإسلامية في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«الإسلام والرأسمالية»، و«السلام العالمي والإسلام». واليسار الإسلامي هو استئناف لسيد قطب الأول في المرحلة الاشتراكية بعد المراحل الشعرية والأدبية والنقدية والفلسفية. كما أنه استئناف لمصطفى السباعي في سورية في «الاشتراكية والإسلام».هذا التقابل بين الأنا والآخر، في الواقع النفسي والثقافي والسياسي والتاريخي، ليس موقفا مبدئيا بل حين تتبع الذات الآخر وتذوب فيه. إنما الموقف المبدئي هو الحوار بين الذات والآخر كندين متكافئين مجتهدين من دون تحديد مسبق أي الفريقين على خطأ وأيهما على صواب «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ». وفي نفس الوقت الذي يحرم فيه القرآن موالاة الآخر بمعنى التبعية وفقدان الهوية يثبت المودة له «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ». كما يؤكد التقاء الأنا والآخر على كلمة سواء، نسق من القيم يقوم على الحرية والعدل للجميع في آية المباهلة «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ». وبتعبير الثوار المحدثين، يد تقاتل التبعية والتغريب، ويد تسالم من أجل حوار متكافئ بين الطرفين.* كاتب مصري