الهوية والتغريـب
إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي تحرير الأرض استكمالاً لحركات التحرر الوطني ضد الهيمنة الجديدة وعودة الغزو العسكري إلى الأوطان كما حدث في العراق، وكانت الثانية حرية المواطن ضد صنوف القهر الداخلي من نظم الحكم، والثالثة العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، بين من يملكون أي شيء ومن يملكون كل شيء، والرابعة توحيد الأمة على المستوى الوطني أولا ثم العربي ثانيا ثم الإسلامي ثالثا طبقا لنظرية الدوائر الثلاث، الوطن والعروبة والإسلام، والخامسة التنمية المستقلة المستدامة ضد الاعتماد على الخارج والمعونات الأجنبية حتى تستهلك الأمة ما تنتج. فإن السادسة هي الدفاع عن الهوية ضد مظاهر التغريب، وإثبات الأنا ضد الآخر. وهو ما سماه الفلاسفة المعاصرون «الاغتراب» أي تحول الأنا إلى آخر والذوبان فيه، وفقد هويتها بحيث يصبح الأنا غريباً على نفسه، فاقداً هويته. والاغتراب في حياتنا المعاصرة تغريب لأن الآخر الذي يستقطب الأنا هو الغرب، فأصبح الاغتراب تغريباً بالضرورة أي الانبهار بالغرب واعتباره هو النموذج الوحيد للتحديث، ومن لم يكن غربياً فهو ليس حدثياً أو أصولياً سلفياً.والتغريب هو أولاً ظاهرة ثقافية تعبر عن الاعتداد بالنفس وهويتها المستقلة وكيانها الذاتي، تعبر عن نفسها من خلال الثقافة الوطنية التي تحمي هوية الشعب وخصوصيته، كما تتجلي في الفن وأساليب العمارة وطرز البناء، وفي الزي الشعبي مثل الجلباب والعباية والخف بعد أن اختفى الطربوش التركي، وفي الأثاث العربي المعروف باسم «الأرابيسك» وفي أنواع الأطعمة الشرقية الشهيرة، وتتمسك كل الشعوب بذلك، فهناك الطرازات الصينية واليابانية والكورية والهندية والماليزية والأندونيسية والتركية والإيراني والعربية والأفريقية والأوروبية، هذه الخصوصيات والتعددية الثقافية والفنية هي أساس التعارف بين الشعوب المختلفة اللغات والمشارب من أجل التعارف والإثراء المتبادل. ثقافات متعددة وحضارة إنسانية واحدة، ويقطع الناس الفيافي والبحار ويعبرون القارات للتعرف على ثقافات الشعوب الصينية واليابانية والهندية والفارسية والمصرية القديمة والعربية، يعشقون الآخر، ويتمثلون ثقافاته وفنونه حتى أصبحت السياحة لدى بعض الدول المصدر الأول للدخل القومي، كما أن التمسك بالهوية ليس مجرد عود إلى الماضي بل هو حفاظ على الاستمرارية في التاريخ وعلى الهوية المتجددة بين الماضي والحاضر والتي يساهم فيها كل جيل. هي موطن الإبداع، فلا معاصرة بلا أصالة، ولا جديد بلا قديم، ولا تحديث بلا تراث، لذلك أضيف إلى اسم بعض وزارات الثقافة «والتراث القومي»، بالإضافة إلى مصلحة الآثار والمهرجانات التراثية الشعبية التي تقام كل عام على الصعد الوطنية والعربية والعالمية.
والأهم من ذلك كله هو الأثر السياسي لقضية الهوية والتغريب. إذ تعني الهوية الاستقلال الوطني، والإرادة الوطنية المستقلة، والثقل السياسي، والتمسك بالثوابت الوطنية، والأمن القومي القائم على الجغرافيا والتاريخ والذي يعبر عن الموقع والموقف. تعني الهوية رفض الدخول في الأحلاف السياسية والعسكرية التي تجعل الدول الوطنية ملحقة بالدول المركزية الكبرى، وتبعية الأطراف للمركز كما كان الأمر في حلف وارسو، وكما هو قائم الآن في حلف شمال الأطلنطي ومشاركته في الغزو الأميركي لأفغانستان. تفقد الدول شخصياتها، وتتصف مواقفها السياسية بالميوعة، ويغيب التعاون الإقليمي والاعتماد المتبادل بين دول الجوار. وتفقد قدرتها على التأثير في موازين القوى العالمية، وتعجز عن لعب أي دور مؤثر في السياسة الدولية.مخاطرها بطبيعة الحال في تحدي القوى الكبرى ورغبتها في الهيمنة على الدول الصغرى لتأمين مصادر الطاقة، والاقتراب من روسيا والصين، ومقاومة سياسة الأحلاف كما فعل عبدالناصر في مقاومة حلف بغداد في 1954، والحلف الإسلامي بين طهران وكراتشي في 1965، ورفض إقامة أي قواعد عسكرية في مصر والوطن العربي، وهو ما تفعله الثورة الإسلامية في إيران الآن دفاعا عن حق إيران في الطاقة النووية مثل باكستان والهند شرقا وإسرائيل غربا وامتلاك كل القوى الكبرى غربا وشرقا لها. والدفاع عن الهوية ضد التغريب هو روح القرآن والحديث الشريف تمسكاً بالهوية الثقافية والشخصية المستقلة في سورة الكافرين، «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ». وتتكرر بعض الآيات مثل، «وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ» للتأكيد. كذلك يرفض القرآن موالاة الآخر العدو مثل اليهود والنصارى «وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ». ومن يواليهم يصبح منهم «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ».ويستمر الحديث في رفض الموالاة والتبعية للآخر «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى. قال: فمن إذن؟». وهو سبب كتابة «علم الاستغراب» للتخلص من صورة الغرب كمصدر للعلم كي يصبح موضوعا للعلم، وللقضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي وحد الغرب نفسه بها. وكل حضارة نبت تاريخها وظروفها وعصرها، وللقضاء على عقدة العظمة لدى الغرب، وعقدة النقص لدى الشعوب اللاغربية من أجل حوار متكافئ بين الحضارات يقوم على الأخذ والعطاء، والتعليم والتعلم ضد المعلم الأبدي والتلميذ الأبدي.وكلما اشتد التغريب بكل ما ينتج عنه من قيم الاستهلاك وملذات الحياة والتميع والذوبان والانصهار في الآخر نشأت الحركات السلفية والأصولية للدفاع عن الهوية، والتمسك بالأصالة لدرجة «المفاصلة» بين الأنا والآخر، بين الإسلام والغرب طبقاً لثنائيات الإسلام والجاهلية، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والهداية والضلال. وهي ظروف نفسية نشأت عن تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية في السجون كما حدث لسيد قطب في 1954 وكتابة «معالم على الطريق» الذي يكفّر فيه المجتمع بعد أن كان من دعاة الاشتراكية الإسلامية في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«الإسلام والرأسمالية»، و«السلام العالمي والإسلام». واليسار الإسلامي هو استئناف لسيد قطب الأول في المرحلة الاشتراكية بعد المراحل الشعرية والأدبية والنقدية والفلسفية. كما أنه استئناف لمصطفى السباعي في سورية في «الاشتراكية والإسلام».هذا التقابل بين الأنا والآخر، في الواقع النفسي والثقافي والسياسي والتاريخي، ليس موقفا مبدئيا بل حين تتبع الذات الآخر وتذوب فيه. إنما الموقف المبدئي هو الحوار بين الذات والآخر كندين متكافئين مجتهدين من دون تحديد مسبق أي الفريقين على خطأ وأيهما على صواب «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ». وفي نفس الوقت الذي يحرم فيه القرآن موالاة الآخر بمعنى التبعية وفقدان الهوية يثبت المودة له «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ». كما يؤكد التقاء الأنا والآخر على كلمة سواء، نسق من القيم يقوم على الحرية والعدل للجميع في آية المباهلة «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ». وبتعبير الثوار المحدثين، يد تقاتل التبعية والتغريب، ويد تسالم من أجل حوار متكافئ بين الطرفين.* كاتب مصري