Ad

كان رأي الدكتورة «فيبي مار»، أن اتفاق الطرفين الإيراني والعراقي هو لقاء المستحيل، وأن الاثنين يكذبان بعضهما على بعض، لكن على الرغم من هذه القناعة الراسخة موضوعياً، فإن واشنطن تخشى حدوث المستحيل، وعليها أن تستعد لمواجهته حال حدوثه، لأنه يشكل كارثة استراتيجية لمخططاتها المستقبلية كلها، ليس في منطقتي الخليج والشرق الأوسط فحسب، بل في الدائرة العالمية أيضاً.

كما شكل «حلف بغداد» كابوساً لجمال عبد الناصر ولحركة القومية العربية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، فإن محور «طهران – بغداد – دمشق» يشكل اليوم الكابوس ذاته للولايات المتحدة وإسرائيل. حلف بغداد ضمّ في حينه دول المنطقة القوية، اشتراكاً ورعاية، مثل باكستان، إيران، تركيا والعراق. أطلقه الرئيس الأميركي الأسبق أيزنهاور في مواجهة المدّ القومي العربي بزعامة عبد الناصر، إثر فشل العدوان الثلاثي الإنكليزي والفرنسي والإسرائيلي بعد تأميم قناة السويس في العام 1956، وبعد جنوح عبد الناصر نحو الاتحاد السوفييتي الذي كان يتأهب لتحقيق حلمه القيصري القديم في الدخول إلى «المياه الدافئة» في منطقة الشرق الأوسط والخليج.

كان شعار هذا الحلف العلني هو منع تمدد الإيديولوجية الشيوعية، أما الهدف غير المعلن هو القضاء على حركة القومية العربية، وهي مازالت طفلاً يحبو، قبل أن يكبر هذا الطفل وتنمو سواعده وقدراته المادية والسياسية. هذا على الرغم من أن الحركة القومية العربية التي تزعمها عبد الناصر، تتناقض حتى العظم مع إيديولوجية ماركس ولينين. لم يعش «حلف بغداد» طويلاً، فقد أُعلنت وفاته «بالسكتة القلبية» إثر قيام الحركة الانقلابية في العراق التي أطاحت بالملكية وجاءت بالأنظمة الثورية التي لانزال نعاني تأثيراتها السلبية إلى يومنا هذا. ولأن العراق كان يمثل القلب في هذا الحلف، فإن وقوفه عن الخفقان أدى إلى موت الجسم كله.

الكابوس الأميركي

هذه اللمحة التاريخية ضرورية، لأنها تثبت؛ أولاً، أن العراق، كان ومازال، يشكل القلب في أي حلف سياسي، خاصة أن في الحلف القائم حالياً بين إيران والعراق وسورية بات يشكل الكابوس الثقيل للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، في الشرق وفي الغرب معاً، خاصة في الشرق العربي. ولأن العراق هو مركز القلب في الحلف الجديد، كما كان في الحلف القديم، فإن الهدف هو إيقافه عن الخفقان، حتى يصاب هو الآخر بالسكتة المميتة. من هنا، فإن العراق هو المحور الأساسي، قديماً وحديثاً، وهو مركز النزاع الاستراتيجي أيضاً إلى أمد غير منظور أو محسوب لا بالشهور، ولا بالسنوات، حتى ولا بعشرات السنين، كي لا نقول المئات حرصاً على إبقاء مساحة ضيقة من التفاؤل.

الكابوس الأميركي، نتيجة ظهور الحلف الجديد المعاكس لحلف بغداد القديم، لم يولد إثر تدمير مركزي التجارة العالمية في نيويورك في 11/9/2001، ولم يرَ النور بعد غزو الولايات المتحدة وغرقها في وحول العراق كما يقول بعضهم. هذا الكابوس ولد قبل ذلك بسنوات عديدة. رأى النور إبان الحرب العراقية – الإيرانية في نهاية الثمانينيات، وكان الأمل يحدو الولايات المتحدة وحلفاءها الشرقيين والغربيين أن يتخذوا منه ابناً شرعياً يحققون من خلاله ما لم يستطيعوا تحقيقه في حلف الخمسينيات. لكن صدام أفشل اللعبة عليهم وعليه أيضاً. ومازلنا ندفع فاتورة هذا الفشل أو الإفشال. والآتي أعظم.

في عام 1994، وخلال زياراتي العديدة لواشنطن، التقيت مع أحد المسؤولين عن الفكر الاستراتيجي في البنتاغون. كانت سيدة مهيبة ملأت مركزها الاستثنائي عن جدارة، وكانت واحدة من شخصيات أميركية قليلة تعرف العراق في كل نواحيه، ولو استوعب جورج بوش ومستشاروه ما عرفته وتعرفه لما وقعت الولايات المتحدة بما فيه الآن. إنها الدكتورة فيبي مار(Phoebe Marr) وكانت، عندما التقيت بها في العاصمة الأميركية، تعرف باســم مـا يمكـن تـرجمتـه للعربيـة بـ «كلب الحراسة للعراق» Iraq Watch Dog ، وهي متزوجة من عراقي، ابن يونس البحري، المعروف بصوته الجهوري في إذاعة برلين العربية، خلال فترة حكم هتلر النازية، وبجملته التي كان يقولها في بدء فترته الإذاعية: حيِّ العرب. وفي الستينيات أقامت في العراق سنوات عديدة قضتها في دراسة الشؤون والشجون والطبائع العراقية الصعبة المراس. ثم نالت شهادة الدكتوراه على هذا الأساس.

كان المفروض أن نلتقي على فنجان قهوة بعد ظهر ذلك اليوم. لكن الحديث طال وانتهى فنجان القهوة، ثمّ طال الحديث أكثر فكان عشاء استمر إلى بعد منتصف الليل.

لسعة الأفعى والمستحيل الثالث

الحديث كله دار، طبعاً حول العراق. صدام والطريقة المثلى للتعامل معه، وسياسة «الاحتواء المزدوج» للعراق وإيران معاً التي اتبعتها إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون، وإمكان نجاحها، ونسبة فشلها. كان صدام، في ذلك الوقت، يتبع أسلوب مغازلة طهران في العلن، ويحمل خنجره وراء ظهره في الخفاء. وكذلك كانت تفعل إيران. والأسئلة التي ظلت حائرة على شفتي «فيبي» طيلة اللقاء هي: على الرغم من أن الظروف الموضوعية تجعل من لقاء طهران وبغداد في محور واحد عملية شبه مستحيلة، لكن هل هناك إمكان التقاء الطرفين على قاعدة «عدو عدوك صديقك»؟ وما هي النسبة المئوية في حصول ذلك؟ وهل أن الغزل الجاري بين البلدين حقيقي أم مصطنع، وبالتالي ما نسبة نجاحه؟ وغير ذلك من أسئلة تدور حول هذه المواضيع.

كان رأي الدكتورة «فيبي مار» أن اتفاق الطرفين الإيراني والعراقي هو لقاء المستحيل، وأن الاثنين يكذبان بعضهما على بعض، لكن على الرغم من هذه القناعة الراسخة موضوعياً، فإن الولايات المتحدة تخشى حدوث المستحيل، وعليها أن تستعد لمواجهته حال حدوثه، لأنه يشكل كارثة استراتيجية لمخططاتها المستقبلية كلها، ليس في منطقتي الخليج والشرق الأوسط فحسب، بل للدائرة العالمية أيضاً. وكان سؤالي: هل نسيت ِسورية ودورها في حال تحقق ما تسمينه مستحيلاً؟ انتفضت الدكتورة المهيبة كمن لسعته أفعى سامة وقالت متسائلة: هذا هو المستحيل الثالث. لكن انتظر دقيقة. إذا كنا نبحث في لقاء مستحيلين اثنين، فما الذي يمنع من أن ينضمّ إليهما مستحيل ثالث؟ وخرجت «فيبي مار» في هذه اللحظة من اعصابها فوقفت وقالت بلهجة حازمة: اسمع. أنا لا أؤمن بوجود المستحيل. لكنني من المؤمنين علمياً بأن منطقتكم لا تعرف أصول المستحيل ولا فصوله. هل تعتقد بلقاء هذه المستحيلات الثلاثة في حلف واحد؟ وعندما قلت لها إن كل شيء معقول في حدود ظروفه ومعطياته، قالت وهي تشدد على كل كلمة: «إذا حصل ذلك. إذا التقت طهران وبغداد وسورية في محور واحد، فإن ترسانة الولايات المتحدة الذرية لا تكفي لتدميره».

«فيبي مار» استقالت من مسؤولياتها في «البنتاغون» في بداية عهد بوش، وانتقلت إلى العمل الأكاديمي والتدريسي، وهي إلى ثلاث سنوات مضت، تعيش مع زوجها في شقتها الصغيرة في أحد احياء واشنطن الهادئة، تاركة وراءها نظرية تحققت وسيناريو قابلا للتنفيذ: النظرية تحققت، وهي لقاء المستحيلات الثلاثة المنضوية اليوم تحت لواء محور ثلاثي: «طهران – بغداد – دمشق». أما السيناريو،... فقد ألمح إليه الرئيس بوش، وللمرة الأولى، في تصريحاته الأخيرة، عندما ذكر ما معناه: أن السماح لإيران بامتلاك القدرة الذرية من شأنه أن يحدث «محرقة نووية» في المنطقة.

*كاتب لبناني