حديقة الإنسان: في خدمة السيرك

نشر في 04-04-2008
آخر تحديث 04-04-2008 | 00:00
 أحمد مطر

يروي هامسون في قصته «المحاضرة» حكاية مثقف شاب يعاني ضائقة مالية، ولا يملك من سبيل للخروج منها إلا عن طريق إلقاء المحاضرات خارج العاصمة. وفي يوم المحاضرة لم يحضر أحد إلا رجلاً صحافيا كان التقاه أول وصوله إلى المدينة، وحين تقدّم الليل قفل صاحبنا عائداً إلى الفندق ماراً في طريقه بالمسرح الذي يقدّم فيه البهلوان عروض السيرك، فصدمه ازدحام الحضور.

الروائي النرويجي (كنوت هامسون) الحائز على نوبل 1920، وصاحب رواية (الجوع) الشهيرة، كان قد كتب في بواكير تجربته الأدبية عدداً من القصص القصيرة التي شكّل بعضها نواةً أو تخطيطاً أوليا لأهم رواياته الكبيرة اللاحقة.

وقد كان أغلب تلك القصص مستلهما من تجربته في أميركا التي مارس فيها، لبضعة أعوام، مهناً مختلفة كقاطع تذاكر في القطارات، أو عامل بسيط في المزارع الشاسعة.

ومن ضمن هذه القصص هناك واحدة ذات لمسة محلية خالصة، تعكس بشكل خاص، وضعية المثقف النرويجي في نهايات القرن التاسع عشر، وتترك في قارئها أثراً واضحاً رغم تباعد الأزمنة والأماكن.

في قصته (المحاضرة) هذه يروي هامسون حكاية مثقف شاب يعاني ضائقة مالية، ولا يملك من سبيل للخروج منها إلا عن طريق إلقاء المحاضرات خارج العاصمة. وعلى هذا فإنه يعد محاضرة في الأدب الحديث، وبما لديه من نقود قليلة يستقل القطار متوجها إلى مدينة (درامن) التي لا يعرف فيها أحدا ولا يعرفه فيها أحد، من أجل أن يجرب حظه هناك، مؤملا أن تهز محاضرته الأوساط الثقافية، وأن تكون حديث الناس.

عند وصوله إلى المدينة، يزور إحدى الصحف المحلية للتعريف بنفسه وبما أتى من أجله، وللسؤال عن أفضل وأوسع القاعات التي يمكن أن تستوعب رواد محاضرته، فيبلغه المحرر المندهش بأن شابا قد جاء في العام الماضي لإلقاء محاضرة ثقافية، لكنه فوجئ بأن عدد الحاضرين لم يتجاوز أصابع اليدين، فعاد من حيث أتى بعد يومه الأول.

لكن صاحبنا الواثق من نفسه لم يبالِ بذلك، وركز اهتمامه في معرفة المبلغ المطلوب لاستئجار أكبر قاعة في المدينة. وعندئذ طمأنه المحرر بأن أوسع القاعات هي قاعة البلدية، وأن بإمكانه أن يحدّث العمدة مباشرة في هذا الأمر.

يوافق العمدة على تأجير القاعة للمثقف الشاب لقاء مبلغ معقول يسدده إذا استطاع أن يحقق ربحاً من المحاضرة.

ولأن صاحبنا لم يكن قادراً على دفع ثمن إعلانات عن المحاضرة، فقد اكتفى بتوزيع خمسمئة بطاقة شخصية كانت في حوزته أصلا، على الناس في الفنادق والبارات والمحال التجارية.

وتوفيرا للنفقات اكتفى بالسكن في فندق رخيص جداً تتضمن خدماته تقديم وجبة الإفطار مجاناً.

في ذلك الفندق يتعرف بلاعب سيرك أمّي كان قد بدأ للتو تقديم عروضه في المدينة، ويحاول هذا دون جدوى، إغراء المثقف بالعمل معه كمعلق على فقرات برنامج السيرك نظراً لقدرته، كمثقف، على الوصف والتعبير بصورة مشوقة وكذلك لكونه غريبا عن المدينة، لأن الناس لن يثقوا بالوصف الذي يقدمه واحد منهم يعرفونه، مثلما حصل في عرض الليلة الماضية حين اضطر لاعب السيرك إلى تكليف شاب من أهل المدينة للقيام بذلك العمل.

وفي يوم المحاضرة يستعين صاحبنا برجل للقيام بمهمة قطع تذاكر الدخول. وقبيل الموعد بقليل يمضي إلى القاعة، فتتردد أصداء خطواته عالية في جنباتها الواسعة، ويحيل بصره في صفوف المقاعد الكثيرة فيجدها كلها متخففة من ثقل أي إنسان!

ويطمئن المثقف نفسه بأن الموعد لم يحن بعد، لكن حتى بعد حلول الموعد ومرور وقت طويل عليه لم يحظ برؤية أي إنسان. وفي اللحظة التي يداخله فيها اليأس والغيظ يسمع صوت رجل آتياً من عند شباك التذاكر، فيخرج بلهفة لرؤيته، لكنه يفاجأ بأن ذلك الرجل هو محرر الصحيفة التي زارها، وقد جاء لقطع تذكرة من باب التشجيع!

وحين يتقدّم الليل دون أن يحضر أحد، يقفل صاحبنا عائداً إلى الفندق الرخيص، ماراً في طريقه بالمسرح الذي يقدّم فيه البهلوان عروضه، فيصدمه ازدحام الحضور، وتصفعه عواصف هياجهم وتصفيقهم.

في تلك الليلة يعاود البهلوان إغراءه، راجياً منه أن يشاركه، في الليلة المقبلة، كتابة فقرات البرنامج وتقديمها بطريقته، لقاء بعض المال.

ولأن صاحبنا يكتشف أنه لم يعد يملك حتى ثمن تذكرة العودة بالقطار إلى العاصمة، فإنه يوافق على مضض، ويعكف على كتابة التعليق بأسلوب بليغ وجميل، ثم يمضي في مساء اليوم التالي إلى تقديم العروض على المسرح، فيندهش لانبهار الحضور بالوصف الذي يتلوه عليهم، وينتشي لهياجهم وتصفيقهم بعد انتهائه من وصف كل فقرة!

وبهذا العمل وحده، لا بمحاضرته الأدبية التي استنفد فيها خلايا ذهنه، استطاع المثقف أن يحظى بالإعجاب والتصفيق، وأن يتدبر ثمن تذكرة العودة!

أتأمّل هذه القصة، وأفكّر في حال الثقافة العربية وحال مثقفينا... فأتساءل: كم محظوظاً استطاع أن يؤمن معيشته وأجرة مسكنه وتذكرة مواصلاته بالإبداع الذي يحسنه ويؤمن به ويحبه ويرضاه، من دون أن يضطر إلى ملامسة حلبة السيرك؟!

ويتّسع تساؤلي ليكون: أهي الثقافة التي تشتغل عندنا، في السيرك، أم هو السيرك الذي يشتغل في الثقافة؟!

* شاعر عراقي

back to top