إن ما مرّ بنا في مفتتح رواية كارلوس ثافون، ينتهك في أذهاننا غشاوة العادة التي فرضت علينا رؤية الكتاب باعتباره مجرد ورق وحبر، وينقل إلينا عدوى اليقين بأنّ الكتاب كائنٌ حيٌّ يعيش حرّاً برغم تعدد مالكيه، وأنه معرّضٌ للنسيان أو المرض أو الموت، وأنه قابلٌ للتبنّي والرعاية والحماية.في صباي المبكر كان يداخلني دائماً إحساس غريبٌ ولذيذٌ بأنّ الكتب مُدن حيّة حافلة بأنواع الأماكن وأصناف الناس، وكنت أتخيّل أنّ انطباق أغلفتها لا يوقف على الإطلاق ما فيها من ضجة الأصوات وحركة الناس والمركبات، أو إيناع النبات وذبوله، بل إن الأغلفة لا تعدو كونها أبواباً، تخفت بإغلاقها الضجّة، وتختفي من ورائها الصور.
كان الأمر بالنسبة لي سرّاً شخصياً، إذ كنت من خلال الحروف السوداء الصمّاء أرى الصور بكلّ الألوان، وأسمعُ الأصوات بكلّ النبرات. لكنني، في الوقت نفسه، كنتُ أضمرُ أنّ كل قارئ شغوفٍ ربما كان ينطوي هو أيضاً على سره الشخصي المماثل، لكنه يرى ألوانه الخاصة ويسمع أصواته المميزة.
وقد صدق اعتقادي هذا بعد أعوام طويلة، عندما قرأتُ كلمات لأحد النقاد، علّق فيها على أول فيلم للأطفال مأخوذٍ من قصص المغامرات المصورة التي برع في إنجازها الرسام البلجيكي العبقري «هيرجيه» وجعل بطلها صحافياً شاباً اسمه «تان تان»... وهي القصص التي قرأتها بكاملها في صباي وأوائل شبابي، ومازلت إلى اليوم أعود إليها بين الحين والآخر بدافع الحنين.
أتذكر مما ورد في تعليق ذلك الناقد أن أحد الأطفال الذين شاهدوا الفيلم خرج من صالة العرض متعلقاً بيد أبيه، وقد بدا ساهماً وحزينا وممتلئاً بالخيبة. وعندما سأله أبوه عن سبب حزنه قال: لقد خُدعنا... إن صوت ذلك الشخص في الفيلم لا يشبه صوت «تان تان»!
واختتم الناقد تعليقه بالقول إنه لو لم يكن «هيرجيه» قد حظي بأي نوع من التقدير على أعماله، فإن كلام هذا الصغير هو جائزته الكبرى التي تُغنِيه عن كل جوائز التقدير وكلمات الثناء... لأنه بخطوط ريشته وبكلماته المكتوبة قد استطاع أن يُسمع ذلك الصغير صوت شخصيته القصصيّة!
الواقع أن شخصيات الكتب ليست وحدها التي تبدو حيةً للقارئ الولوع، بل إن الكتب بحد ذاتها تبدو للمتعلقين بها كائناتٍ حيةً يستمدون منها الحياة، بالقدر الذي يمدّونها فيه بالحياة.
ولعل أصدق تعبير وأدقّ تصوير لهذه الحالة هو ما نجده في مفتتح رواية «ظِلّ الريح» للكاتب الإسباني «كارلوس رويث ثافون» الذي يضع على لسان الراوي حديثاً عن كيفية عثوره على نص تلك الرواية، يخبرنا فيه أنه في طفولته عاش مع أبيه بعد وفاة أمه في شقة تعلو محلاًّ لبيع الكتب المستعملة يملكه الأب... وعند بلوغه العاشرة أخذه أبوه ذات يوم، قبل بزوغ الفجر، لزيارة مكان خاص، من أجل أن يضع خطواته الأولى على طريق وراثته في المهنة، قائلاً له إنه يريد أن يريه «مقبرة الكتب المنسيّة»... وبعد مسيرة طويلة عبر دروب وأزقةٍ ضيقةٍ، يقفان أمام باب خشبي ضخم منحوت، فيقرع الأب الباب ويُفتَح له... ولا يكادان يعبران ممرّاً فخماً ومديداً حتى يفاجأ الطفل بوصولهما إلى باحة واسعة تطرّزها الممرات، وتنعقد على جدرانها العالية رفوفٌ طويلةٌ غاصّةٌ بالكتب ترتفع حتى تلامس السقوف البعيدة جداً.
عندئذٍ يبتسم الأب قائلاً لولده: «أهلاً بك يا دانيال في مقبرة الكتب المنسية».
ثم يبدأ في تلقينه ما تعلمه هو نفسه من أبيه، موضحاً له أن هذا المكان هو موضع الأسرار، وهو على ذلك موضعٌ مقدس «إن كلّ كتاب تراه هنا له روح... هي روح الشخص الذي كتبه، ومعها أرواح أولئك الذين قرؤوه وعاشوا معه وحلموا به... وفي كل مرة تتبادل فيها الأيدي كتاباً، أو تجري فوق صفحاته نظرات شخص ما، فإنّ روح الكتاب تزداد نمواً وقوّة».
ويضيف إلى ذلك قائلاً: سأخبرك بما أخبرني به أبي: «عندما تختفي مكتبة عامة، أو يُغلق محلّ كتب، وعندما يودع كتاب في مخزن ما ليطويه النسيان، فإننا نحن الذين نعرف هذا المكان -نحن رعاته وحراسه- علينا واجب التأكد من أن تلك الكتب سوف تنتهي إلى هنا. في هذا المكان كتب لم تعد في ذاكرة أحد، وكتب فقدت مع الزمن، تعيش هنا إلى الأبد في انتظار اليوم الذي تصل فيه إلى أيدي قراء جدد».
وينبهه إلى حقيقة مهمة، تغرب، برغم بساطتها، عن أذهان جميع الناس: «إننا في المكتبة نبيع الكتب ونشتريها، لكنّ الحقيقة هي أن الكتب لا مالك لها. فكل كتاب هنا كان ذات يوم أفضل صديق لشخص ما، لكنها، الآن، ليس لها سوانا... أتعرف ما أفضل شيء نصنعه بها؟ طبقاً للتقاليد فإن أي شخص يزور هذا المكان لأول مرة، عليه أن يختار كتاباً ثم يتبناه، وأن يكون واثقاً من قدرته على حمايته من الاختفاء، فذلك ما سيبقيه حياً. إنه تعهد في غاية الأهمية ينبغي للمرء أن يلتزم به مدى الحياة... وعليك اليوم أن تؤدي هذا الدور».
وعن سعيه إلى تأدية دوره الذي قد حان، يقول الراوي: «أخذت أتجوّل بين تلال الكتب المرصوفة بحثاً عن كتاب أتبناه أو يتبناني، فيما كان الناس خارج جدران هذا المكان يسمحون للحياة بأن تتبدّد عبر مشاهدة مباريات كرة القدم أو الاستماع إلى التمثيليات الإذاعية، وهم لا يفعلون شيئاً سوى التحديق إلى مواضع حبل السرة في بطونهم!
وبعد نصف ساعة من التجوال، ظهر لي العنوان بالأحراف المذهبة: «ظِلّ الريح»... بقلم جوليان كاركاس... ولم أكن قد سمعت بهذا العنوان ولا بمؤلفه من قبل، لكنني لم أهتم، فقد اتخذت قراري وأنزلت الكتاب بكل عناية وحذر، وحالما حررته من سجن الرفّ ومن سحابة الغبار، شعرت بالغبطة لاختياري، فوضعته تحت ذراعي وانقلبت على أعقابي خلال ممرات المكتبة والابتسامة تعلو شفتي. لقد كنت واثقاً من أن «ظِلّ الريح» كان ينتظرني هنا منذ أعوام، ومن المحتمل أنه كان ينتظرني من قبل أن أولد»!
إن ما مرّ بنا في مفتتح رواية كارلوس ثافون، ينتهك في أذهاننا غشاوة العادة التي فرضت علينا رؤية الكتاب باعتباره مجرد ورق وحبر، وينقل إلينا عدوى اليقين بأنّ الكتاب كائنٌ حيٌّ يعيش حرّاً برغم تعدد مالكيه، وأنه معرّضٌ للنسيان أو المرض أو الموت، وأنه قابلٌ للتبنّي والرعاية والحماية.
قد يبدو هذا مجرد خيال، أو لعباً في ساحة المجازات، لكن تجربة الكاتبة البريطانية «مارغريت فورستر» خلال كتابتها لسيرة «دافني دومورييه» مؤلفة الرواية الشهيرة «ربيكا»... تضعنا أمام حقائق واقعية مذهلة من هذه الناحية، لا نملك معها سوى التسليم بأنّ الكتب، على نحو ما، هي كائناتٌ حيةٌ بالفعل!
وتلك حكاية أخرى تستحق أن تُروى.
* شاعر عراقي