بالرغم من كون عُمان أقدم دول مجلس التعاون تأسيساً وأنها الدولة الوحيدة التي تملك إرثاً يمكن توصيفه «بالإرث الإمبراطوري» باعتبارها كانت بالفعل إمبراطورية واسعةً، امتد نفوذها يوماً ليشمل الساحل الشرقي لأفريقيا وصولاً إلى مدغشقر وغيرها، فإن ذلك لم يترك أثره تجبّراً أو تعالياً أو«تفاخراً» على أيّ من شقيقاتها الخليجيات! أن تُجرى في سلطنة عُمان انتخابات لما يُطلق عليه مجلس الشورى ليس هو الحدث، فمثل هذه الانتخابات سبق لها أن نُظِّمت على مدى السنوات السابقة في إطار خمس دورات، وما شهدناه قبل أيام كانت الدورة السادسة، كما أن مثل هذه الانتخابات وإن بصور وأشكال ونماذج وسياقات مختلفة فإنها كانت تحصل في دول الجوار العماني أو صارت تجري أخيراً.
الحدث هو أن تعيد التعرّف على عُمان من جديد عبر بوابة الانتخابات المذكورة، فعمان ليست كسائر دول مجلس التعاون كما أنها لا تتناغم مع أيٍّ من جيرانها في كثير من السياقات، وهي لا تشبه البتة إلا نفسها في كل شيء تقريباً!
كنت في عمل ومهمة أخرى غير مراقبة الانتخابات، لكن تزامن حدث الانتخابات وحديثها مع وجودي هناك، فتح الباب واسعاً مع ثُلة أعتزّ بها من العمانيين، لإعادة التعرف على الخصوصية العمانية من جديد.
فبالرغم من كون عمان أقدم دول مجلس التعاون تأسيساً وأنها الدولة الوحيدة التي تملك إرثاً يمكن توصيفه «بالإرث الإمبراطوري» باعتبارها كانت بالفعل إمبراطورية واسعة امتد نفوذها يوماً ليشمل الساحل الشرقي لأفريقيا وصولاً إلى مدغشقر وغيرها، فإن ذلك لم يترك أثره تجبّراً أو تعالياً أو«تفاخراً» على أيّ من شقيقاتها الخليجيات!
وبالرغم من أن التكوّن والتشكّل العمانيين للدولة حصل في سياق طموح فإن هذا الطموح التاريخي لا ينعكس اليوم على ممارسات السياسة أو الدبلوماسية العمانية مطلقاً! بل العكس تماماً، إذ تبدو وكأنها الدولة الأبسط والأكثر تواضعاً من غيرها، رغم كل ما لديها من ذرائع يمكن أن تدفع بها إلى التفاخر ومن ثم التعالي على الآخرين!
وبالرغم من أن عمان محاطة اليوم بتجارب «تنموية» مطّردة النمو ومتسارعة الخطا بدرجة تكاد تظهر عمان أمامها أشبه ما تكون بالدولة الفقيرة و«المتثاقلة» عن اللحاق في السباق! فإنها لا تبدو وكأنها تعاني ما يمكن أن نسميه عقدة «التخلف» عن الركب! بل على العكس تماماً تبدو مطمئنة إلى خياراتها وتعتز بتجربتها الخاصة، وأقرب ما تكون إلى «الناقد» لتجارب الآخرين والقلق على سياقاتها التي قد تكون غير مأمونة الجانب بنظر أهل عمان!
أزعم أن عمان تشكل أقرب ما يكون إلى ما سميته مجازاً «بالعائلة العمانية الواحدة البسيطة التركيب»! والمقصود هنا غياب التعقيد أو التشابك أو الاصطفاف الاحتكاكي فضلاً عن التنافس المترافق بالتحدي بين فئات المجتمع المختلفة والمتفاوتة!
ولذلك ترى العماني وهو يمارس التجارة أو التنمية أو السياسة -والانتخابات الأخيرة واحدة من حالات الممارسة السياسية بامتياز، بالرغم من التشكيلات القبلية والمناطقية والفئوية التي تطبع مجتمعه مثله مثل المجتمعات المجاورة له، فإنه يتصرف وكأنه يمارس كل تلك النشاطات من أجل عمان الواحدة الموحدة- تراه يعمل الدعاية لشركته من بوابة عمان ويروّج لمشروعه التنموي من البوابة العمانية ويقوم بحملته الانتخابية على النطاق والمستوى العماني بالرغم من أنه ليس سوى مرشح عن قبيلة أو منطقة، وفي الحد الأقصى فهو يمثل المحافظة أو الولاية!
هذا هو العماني في السياسة الخارجية أيضاً، في مواجهة الاستقطابات العربية-العربية القومية أو الأوسع نطاقاً عندما تصبح على المستوى الإقليمي فضلاً عن الاستقطابات الدولية المتشابكة والمعقدة. فكل شيء عنده بقدر وكل شيء عنده بالتدرج والمعادلة عنده، أي معادلة كانت، لابد أن تكون محكومة دوماً بتوازن الأبعاد ومخففة للتحدي والاستقطاب المحيط بالقضية المعنية كحد أدنى، فهو يؤمن بأهمية إدارة المهمة الملقاة عليه بنجاح أكثر من اهتمامه بإدارة التحديات المثارة من حولها والفرق كبير بين الاثنين، إذ إن الأول يساهم في إدارة الدولة والمجتمع، في حين أن الثاني يعني إدارة الأزمات الناشئة عن التأثر باستفزازات التحديات!
من يعرف عُمان جيداً يستطيع أن يجد الأدلة الكافية والحكم على ما ذهبنا إليه، فكان هذا موقفها في أثناء الحرب المجنونة التي شنها صدام ضد إيران، وكان هذا موقفها من الغزو العراقي الأحمق ضد الكويت، وكان هذا موقفها من الغزو الأميركي الأكثر حماقة للعراق، وكانت هذه مواقفها ولاتزال تجاه كل الاستقطابات أو التحديات الكبرى، مخالفة لأي فكر متطرف أو متشنج أو عدواني أو استفزازي، ولا تظهر ميلها أو تحسم أمرها إلا للوسطيّ والهادئ والمتوازن من المواقف، ولا تقطع «شعرة معاوية» مع أحد! ولسان حالها في كل ذلك بما فيه تقويم دورتها الانتخابية السادسة يقول كما يقول المثل العربي الشهير «القليل المتصل خير من الكثير المنقطع»!
وعُمان الانتخابات الأخيرة ومهما قيل عن قصور أو نواقص «ديموقراطيتها» وهي لا تنفي ذلك، تظل هي عمان المتصالحة مع ذاتها وبيئتها ومحيطها وغير «المستعجلة» على أمر إلا ما تلح عليه البيئة الداخلية وتتطلبه وحدة العائلة العمانية غير معنية بتقليد ديموقراطية من هنا أو تنمية من هناك أو حتى اندفاع نحو سباق «حداثي» بدأ يحاصرها من كل أمثلة الجوار! ولعل في هذا القرار المبني على خصوصية عمانية كما أشرنا يكمن صمام أمان عمان وسط موجات أعاصير العولمة المتوحشة البشرية والطبيعية، ومنها إعصار «غونو» الذي واجهته هو الآخر بطريقة متفاوتة عن سائر دول العالم، بعيداً عن أشكال العويل والصراخ والضجيج المعتمدة عادة في مثل هذه الحالات، وكفى الله العمانيين شر التقليد والتبعية أو الانبهار!
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي-الإيراني