الإســلام المستنيــر
تتركز مهمة الإسلام المستنير في إعلاء قيمة الحوار، وإفراز نوع من التعددية الفكرية والسياسية داخل الحركات الإسلامية والتيارات العلمانية على حد سواء. فالإسلاميون ليسوا تيارا واحدا. بهم وسط ويسار ويمين. والعلمانيون ليسوا تيارا واحدا أيضا، فهناك علمانيون يقبلون الإسلام الليبرالي والوطني والعقلاني والتقدمي والاشتراكي، بينما ينطلق الإسلام المستنير من قاعدة غاية في الأهمية، تتمثل في مصالح الناس وما يهم كل مواطن، وهو الإسلام الواقعي الذي يعطي الأولوية للمصالح العامة على النصوص
وسط هذا الانتشار الواسع للإسلام «الأصولي» بفعل تركيز المستشرقين والقوى السياسية الغربية والذي يسمى أحيانا أخرى الإسلام السلفي أو الإسلام النصي، ومن خلال سيادة الإسلام المحافظ والذي يسمى أيضا الإسلام التقليدي المنغلق، ومن ثنايا الإسلام العنيف الرافض الذي وُصف بالإرهاب في الخارج والداخل والذي أصبح ذريعة لغزو الشعوب من قوى الهيمنة والاستعمار الجديد، كما حدث في أفغانستان والعراق والشيشان وكشمير والصدام مع الحركات الإسلامية في الداخل في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وسورية، وسط هذا الركام كله يبرز الإسلام المستنير كإسلام مغاير، يدعو إلى الحوار الوطني وبناء الجسور مع التيارات المتنازعة، وبدأ الحوار بين الدولة وخصومها بدلا من الاستقطاب الحالي الذي أصبح يهدد وحدة الأوطان ويدفعها إلى حروب أهلية بين الإخوة الأعداء. مهمته إزالة الاستقطاب بين الدولة وخصومها الإسلاميين، وإنهاء العنف المتبادل بينهما، ليس فقط عن طريق التائبين والمراجعين، توبة الجماعات داخل السجون ومراجعاتهم العلنية لمواقفهم السابقة، وليس أيضا عن طريق إدماجهم في الحياة الاجتماعية والسياسية ولو عن طريق الاحتمال بل عن طريق إقامة حوار فعلى ضمن الحوار الوطني من أجل مصالحة تاريخية بين الدولة وخصومها، وإعادة ترتيب البيت من الداخل من أجل إقامة جبهة أو ائتلاف وطني عريض ضد المخاطر الخارجية، وأقلها الغزو المباشر من الخارج لتخليص المنطقة من النظم التسلطية حتي ولو على أسنة الرماح كما حدث في العراق من أجل إقامة نظم حرة وديموقراطية، وحماية الجبهة الداخلية من شق الصف الوطني دون انفراد الحزب الحاكم بالسلطة، وضرورة المشاركة السياسية للجميع. مهمته أيضا تحقيق حوار وطني بين مختلف القوى والأحزاب السياسية في البلاد دون هذا الخصام المفتعل بين الإسلاميين والعلمانيين، صراعا على السلطة إذا ما ضعفت الدولة، وعجزت اختياراتها السياسية عن تحقيق الاستقلال الوطني ومصالح الشعوب، بدلا من أن تقوم الدولة بالتخلص من الإسلاميين باستعمال العلمانيين مرة أو بإزاحة العلمانيين باستعمال الإسلاميين مرة أخرى حتي يضعف الجناحان الوريثان للنظام القائم. مهمة الإسلام المستنير أيضا إفراز نوع من التعددية الفكرية والسياسية داخل الحركات الإسلامية والتيارات العلمانية على حد سواء. فالإسلاميون ليسوا تيارا واحدا، بهم وسط ويسار ويمين. وبهم صراع بين الرعيل الأول والأجيال التالية. الحوار الداخلي بين الأجنحة داخل كل تيار يقرب التيارات بعضها من بعض، والعلمانيون ليسوا تيارا واحدا، فهناك علمانيون يقبلون الإسلام الليبرالي والوطني والعقلاني والتقدمي والاشتراكي.
والإسلام المستنير ليس تيارا واحدا بل تتعدد تياراته وأسماؤه. فهو الإسلام الإصلاحي أو العقلاني، سليل الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى عبد الرازق وطه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد. وهو الإسلام الليبرالي الديموقراطي أو حتى العلماني عند علي عبد الرازق وخالد محمد خالد. وهو الإسلام التقدمي الاشتراكي الإنساني عند مصطفى السباعي وسيد قطب الأول صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام» قبل أن يكتب «معالم في الطريق» تحت تأثير التعذيب في غياهب السجن، وعند عبدالرحمن الشرقاوي وأحمد عباس صالح وغيرهم من الأجيال الجديدة الذين ضاقوا ذرعا بالتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وهو ما يتعارض مع مبادئ الإسلام ومُثله ونماذجه الأولى. وهو «اليسار الإسلامي» الذي يعيد فهم الإسلام بناء على تحديات العصر السبعة الرئيسية: استكمال حركة التحرر الوطني في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وسبته ومليليه، تحرير المواطن من كل صنوف القهر الديني والسياسي والاجتماعي، تحقيق العدالة الاجتماعية بدلا من هذا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، إقامة وحدة الأمة عن طريق التجمعات الإقليمية العربية والإسلامية ضد مخاطر التفتيت والتجزئة العرقية والطائفية التي بدت في العراق وتهدد الخليج ولبنان واليمن والسعودية وسوريا والمغرب العربي ومصر ذاتها كي تبقى إسرائيل أكبر دولة عرقية طائفية تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة، والتنمية المستقلة المتكاملة لما تتمتع به المنطقة من رؤوس أموال وطاقة وأسواق وعقول للتخطيط، الدفاع عن الهوية الوطنية ضد مخاطر التغريب والهويات العرقية والطائفية الزائفة، وأخيرا حشد الناس لإشراكهم في العمل الوطني التاريخي بدلا من تهميشهم لمصلحة الأبطال التاريخيين ونظم حكم الفرد المطلق.وهو الإسلام التعددي الذي لا يحتكر الرأي ويسمح بأكبر قدر ممكن من الاختلاف، الذي هو حق شرعي. فالكل راد والكل مردود علىه. ولا توجد فرقة ناجية واحدة في الجنة وباقي الفرق ضالة هالكة في النار. والصواب متعدد وليس في مصلحة فريق دون فريق. يحيي التعددية القديمة التي كانت وراء الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، فرق كلامية، مذاهب فقهية، طرق صوفية، تيارات فلسفية، اتجاهات تفسيرية، مناهج للرواية وطرق للدراية بدلا من أن يزهو الغرب علىنا بأنه هو الذي أعطى العالم قيم التعددية.وأخيرا، هو الإسلام الواقعي الذي يبدأ من مصالح الناس وما تعم به البلوى، وما يمس كل مواطن، وتتأثر به كل أسرة. هو الإسلام الذي يعطي الأولوية للمصالح العامة على النصوص كما تفعل المالكية اعتمادا على الاجتهاد في صوره المتعددة من قياس واستصلاح واستحسان واستصحاب ومصالح مرسلة. هو إسلام عمر بن الخطاب الذي يوقف حد السرقة عام المجاعة، ويوقف توزيع أرض السواد في العراق على المحاربين حتي لا يستوطنوا ويتركوا الجهاد في سبيل الله. هو الإسلام الذي لا يخشى في الله لومة لائم. يجهر بالحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).