المراجعات: المعنى والأهمية التاريخية
خلال العقود الثلاثة الأخيرة ظهرت وتنامت بصورة غير مسبوقة من قبل الظاهرة الإسلامية الحركية بكافة فئاتها وجماعاتها، ليصبح بعضها الرقم الأول في المعادلة السياسية والاجتماعية في بعض البلدان العربية والإسلامية بما يمثله من حضور وشعبية واسعة مضطردة، وليصبح بعضها الآخر الهم والخطر الأول في المعادلة السياسية والأمنية في بلدان أخرى بل وعلى المستوى العالمي بما يمثله من تهديد للاستقرار وممارسات عنيفة وإرهابية راحت تتنامى يوماً بعد آخر. في ظل تلك الحالة من تزايد أهمية وحضور الظاهرة الإسلامية كان ملفتاً أن الصخب والاهتمام الأعلى كان دوماً مقترناً بممارسات جماعاتها الجهادية العنيفة، سواء ذات الطابع المحلي مثل تلك التي أدارت عجلة القتل والتدمير في الجزائر ومصر خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، أو سواء ذات الطابع الدولي وفي مقدمتها القاعدة التي تشغل مقدمة أخبار العالم منذ هجمات سبتمبر 2001، بينما تراجع الصخب والاهتمام أو غابا تقريباً عن ممارسات وتطورات أخرى لا تقل أهمية بداخل نفس تلك الظاهرة الإسلامية. فقد سلطت أضواء أقل بكثير على الحركات الإسلامية السياسية السلمية وما راحت تحققه من شعبية متزايدة في بلدانها وانتصارات متتابعة في كل الانتخابات التي أجريت فيها، بينما غابت تقريباً الأضواء عن التحولات المحورية التي راحت تشهدها بعض الحركات الجهادية العنيفة وبخاصة في مصر والتي جرت تحت اسم «المراجعات» وأدت إلى انتقال كامل لها من فئة الحركات الجهادية العنيفة إلى فئة الحركات الإسلامية السياسية السلمية بكل ما يعنيه ذلك من نتائج فكرية وحركية محورية.فللمرة الأولى في تاريخ الحركات الإسلامية منذ انهيار الخلافة العثمانية عام 1924 تقوم جماعات سياسية أو دينية ذات حجم كبير يقدر بعشرات الآلاف في حالة الجماعة الإسلامية المصرية، وبعدة آلاف في حالة جماعة الجهاد المصرية أيضاً، بمراجعة جذرية وكاملة لأفكارها الجهادية القديمة ولتاريخ طويل من الممارسات المتشددة والعنيفة، لتنتهي منها بالخروج من ثوبها الجهادي العنيف والدخول في فئة الحركات الإسلامية السياسية السلمية. فقد كان ذلك هو حال الجماعة الإسلامية التي كانت مسؤولة عن أكثر من 95% من عمليات العنف والإرهاب التي شهدتها مصر منذ اغتيال رئيسها الراحل أنور السادات وحتى عام 1997 حين أطلقت قيادات الجماعة مبادرتها الشهيرة لوقف العنف، ولتقوم بعد ذلك بإجراء «مراجعات» جذرية لكل ما اعتقدته وقامت به خلال السنوات السابقة، معلنة نقدها لها ومسجلة كل ذلك فيما يزيد عن خمسة وعشرين كتاباً أصدرتها حتى اليوم. وهذا هو اليوم حال جماعة الجهاد، التي نجحت باتحادها مع الجماعة الإسلامية في اغتيال الرئيس السادات عام 1981 ثم تحولت منذ منتصف الثمانينيات إلى جماعة ذات شق داخلي مصري وآخر خارجي دولي، تحول بعد ذلك ليصبح رافداً رئيسياً في تشكيل تنظيم القاعدة في نهاية التسعينيات، حيث انضم عدد مهم من قادتها التاريخيين في السجون المصرية وفي المنافي الأوروبية إلى مبادرة الجماعة الإسلامية منذ إعلانها، وشرعت بعد ذلك في إعداد مراجعاتها التي تكتمل اليوم بصدور وثيقة «ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم» لأميرها السابق ومفكرها الدائم الدكتور سيد إمام الشريف.
هذه العملية التاريخية الكبيرة غير المسبوقة للتحول من فئة إلى أخرى بداخل الظاهرة الإسلامية، جرت وتجري تحت اسم «المراجعات»، وهو المعنى والممارسة اللذان ظلا غائبين عن تقاليد القوى والتيارات الرئيسية في عالمنا العربي لعقود طويلة، على الرغم من ظهور حالات فردية لمراجعة الأفكار والمواقف القديمة هنا أو هناك في هذا البلد أو ذاك. فما قامت به الجماعة الإسلامية من قبل وتقوم به اليوم جماعة الجهاد عبر وثيقة «الترشيد» للدكتور فضل من «مراجعات» إنما يعني في الحقيقة إعادة قراءة مزدوجة لأمرين: الأولى للأفكار التي كانت الجماعتان تتبنيانها في الماضي، والثانية لهذا الماضي نفسه وما قامتا به فيه من أعمال وممارسات صارت اليوم جزءاً من التاريخ. وهذه الإعادة المزدوجة للقراءة التي استكملتها الجماعة الإسلامية وتستكملها اليوم جماعة الجهاد، تضمنت بداخلها عمليتين سارتا بشكل متوازٍ ومتداخل وكانت حصيلتهما هي ما صرنا نطلق عليه «المراجعات»: الأولى هي النقد العميق والجذري لأفكار الماضي وممارساته، والثانية هي صياغة نسق فكري وأيديولوجي جديد منقطع الصلة بالقديم تبنته الجماعتان وصار هو المحدد لحركتهما في الحاضر والمستقبل. هذا المعنى المركب متعدد المستويات للمراجعات التي قامت وتقوم بها الجماعتان الإسلاميتان الأكبر في تاريخ العنف الديني في مصر والعالم، هو الذي يعطي لتلك العملية أهميتها وتأثيراتها البالغة، حيث تحققت بها القطيعة الكاملة مع أفكار وممارسات قديمة لهما صارت جزءاً من التاريخ وافتتحتا بها مرحلة جديدة في تطورهما لا تمت بصلة لما كانتا عليه في الماضي القريب.وأما عن آثار تلك المراجعات الكبرى، فقد كانت مراجعات الجماعة الإسلامية واضحة على الساحة المصرية خلال السنوات العشر الأخيرة التي جرت خلالها، حيث توقف العنف تقريباً في وادي النيل فلم يشهد سوى حادثة واحدة قامت بها مجموعة عائلية صغيرة عام 2005 فضلاً عن التفجيرات الثلاثة التي جرت في سيناء البعيدة والتي لا يزال الغموض يلف حقيقتها ومرتكبيها. أما مراجعات جماعة الجهاد التي تدشنها وثيقة الدكتور فضل فمن المتوقع أن تظهر آثارها السريعة والعميقة على المستوى العالمي دون تأخير. فمن يقودونها هم من أبرز الرموز التاريخية للحركة الجهادية العالمية وفي مقدمتهم الدكتور فضل نفسه، حيث سيؤدي ذلك بدون شك إلى خلخلة عميقة وواسعة لصفوف تلك الحركة وفي مقدمتها تنظيم القاعدة الذي شاركت عناصر من الجهاد في تأسيسه ويحتل أميره السابق أيمن الظواهري موقع الرجل الثاني فيه. فلا جماعة الجهاد ولا تلك القيادات والرموز الكبرى التي تجري المراجعات يمكن اتهامهم من جانب القاعدة وأنصارها بأي اتهام ينال من مصداقيتهم ولا صدق تحولهم ولا صحة مراجعاتهم، وهو الأمر الذي سيوجه أول وأكبر ضربة حقيقية للقاعدة وأسسها الفكرية والحركية ربما منذ تأسيسها.