Ad

الواقع أن «حماس» تملك «عقيدة قوة» وليس استراتيجية. وهي في ما يبدو حققت إنجازاً كبيراً بالمعايير السياسية الداخلية من تطبيق هذه العقيدة. وما حدث في رفح ينقل تطبيق هذه العقيدة إلى المستوى الإقليمي وفي مصر تحديداً. ولاشك أنها ستحصل على شيء من الاعتراف على المعابر.

ربما أدارت مصر أزمة المعابر بقدر كبير من الحكمة، تجنبت الأسوأ وتركت شعب غزة يعبر إلى أراضيها ويعود حاملاً حاجاته البسيطة ومتمتعاً بحق التنفس بحرية بعيداً لساعات أو أيام عن غزة التي صارت سجناً كبيراً. عبر سكان غزة أما مصر نفسها فلم تعبر إلى أي شيء مما يليق بمقامها.

وربما تكشف هذه الحقيقة عن أن المشكلة أو الأزمة لم تكن في الحقيقة مشكلة معابر، ويستحيل قبول حصر القضية في المعابر، بل إن هذا الحصر هو المقدمة المنطقية لفشل إقليمي أعظم في فهم ما حدث والتحرك صوب حل سليم للمشكلة الحقيقية، وبالفعل يبدو أن المفاوضات التي دعت إليها مصر بين «حماس» و«فتح» في القاهرة خلال الأيام القليلة الماضية فشلت حتى قبل أن تبدأ بجدية.

المشكلة أو الأزمة الحقيقية هي الافتقار إلى رؤية استراتيجية حول كيفية تحقيق العدالة والحرية للشعب الفلسطيني والسلام الحقيقي للمنطقة ككل. وبسبب افتقار القوة العربية الكبرى والنظام العربي ككل لهذه الرؤية الاستراتيجية، فالواقع صار مولداً للأزمات من دون توقف. وبعض هذه الأزمات ضخم بضخامة الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1978 وعام 1982 ثم سلسلة الحروب التي شنتها إسرائيل على الشعبين اللبناني والفلسطيني منذ عام 2000. وبعض هذه الأزمات محدود نسبياً أو «عابر» مثل أزمة المعابر بين مصر وفلسطين.

والمشكلة أن أزمة غياب استراتيجية تتضاعف لأن انسحاب مصر من معادلات الصراع أدت إلى اضطراب عظيم ومازالت، إذ لم يظهر بديل في شكل دولة تقود النضال العربي من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني وتقديم إشارات طريق لمستقبل هذه الأمة، وفي سياق هذا الغياب المزدوج ظهرت حركات نضالية ولكنها تعكس الأزمة أكثر مما تحلها. و«حماس» واحدة من أهم هذه الحركات.

بين العفوية والقصد

كان من السهل على أي مراقب لديه الحد الأدنى من الفهم لسيكولوجيا الشعوب ولمضاعفات السياسة أن يتنبأ بانفجار الشعب الفلسطيني في غزة. فسياسة عزل غزة حولت القطاع إلى قطعة من جهنم، فأولا كانت هذه السياسة رسالة انصراف ونبذاً للشعب نفسه حتى لو أن المقصود بها عربياً هو حجب الاعتراف عن «حماس» أو أي فصيل آخر. ومن ناحية ثانية فالعزل حرم الشعب الفلسطيني من أساسيات الحياة العادية بعد سنوات طويلة من الجهاد العسير وبالغ الصعوبة كان القتال مع العدو الإسرائيلي يتم فيها بالأنفاس والأظافر إضافة إلى الأباتشي وقاذفات القنابل في منطقة يكفي فيها رمي النبال لسقوط عشرات من القتلى والمصابين. وكانت إسرائيل تشن الحرب ضد غزة بكل قوتها وتوظف فيها ما هو أخطر من الأسلحة بدءاً من التجويع ووصولا إلى حرب الصرف الصحي الذي أطلقته في الشوارع لتدمير البيئة وحس الجمال والحياة لدى شعب مقاتل وعنيد.

وسط ذلك كله جاء إغلاق مصر للمعابر مع غزة رسالة خاطئة جذريا وسياسة يستحيل الدفاع عنها، وكان هذا المعنى واضحاً خصوصاً بعد سلاسل من المشكلات الصغيرة المتفجرة في ما يتعلق بأبسط الحقوق كافة وهو حق العبور إلى الوطن. وآخر مشكلة من هذا النوع تعلقت بعبور الحجاج الفلسطينيين وكانت واضحة بذاتها. فالحجاج فرضوا فتح المعابر ولم يستسلموا لقدرهم التعس مثل آخرين انتظاراً لرحمة سلطات لا ترحم.

كان الواقع والتجربة يدفعان الشعب الفلسطيني في غزة إلى الانفجار، ولكن «حماس» التي تقود غزة كان لديها أسبابها الخاصة لدفع الانفجار نحو مكسب سياسي، فلا شك مطلقا أن قوات «حماس» صاحبت وقادت الانتفاضة الفلسطينية العفوية ضد المعابر بل ضد الحدود مع مصر عموما، وكانت هي المسؤولة عن عملية تفجير جدران الحدود. ويبدو ذلك أمراً منطقياً وطبيعياً. فحتى لو لم ترد أن تؤدي هذا الدور فواقعها الصعب كان يفرض عليها الاندفاع إليه. فقد صارت «حماس» قوة قتالية كبيرة تحسب لها إسرائيل ألف حساب ثم إنها تمكنت من تحويل هذه القوة إلى الفضاء السياسي فشكلت الحكومة الشرعية لكل فلسطين. وفي نفس الوقت فنحن نتحدث عن قوة صاحبة مشروع عملاق يستغرق عقوداً طويلة إن لم يكن قروناً في التطبيق. هذه القوة فوجئت بأنها صارت محصورة في غزة وهي مدينة هائلة الازدحام ولكنها محرومة من كل شيء، وبذلك صارت «حماس» مثل الأسد المحبوس في القفص، ومن المحتم أن يسعى الأسد لكسر القفص.

أما الأهداف فكانت واضحة نسبياً: استعادة بعض الشعبية المفقودة بسبب الأخطاء المتراكمة في غزة نفسها، إتاحة شيء من التفريغ وفضاء التنفس للشعب على الأرض المصرية وإلا انفجر داخل القطاع، وتمكينه من الحصول على حاجاته الأساسية بعد أن انهار اقتصاد القطاع وصار مثل النيران الموقدة. أما الهدف الأكبر فهو فرض الاعتراف بـ«حماس» سياسياً على مصر والنظام العربي ككل ومن ثم تحريك القضية التي بدا وكأنها استقرت في الهوة التي سقطت فيها يوم 14 يونيو الماضي عندما استولت «حماس» بالقوة على غزة.

أهداف «حماس» كانت واضحة ولكنها بكل تأكيد لا تنسج رؤية استراتيجية، فحتى إن تحققت جميع أهدافها وتمكنت من فرض الاعتراف الفعلي أو القانوني بها كحكومة في القطاع أو كشريك في الحكومة الوطنية في رام الله لن يكون هناك تأثير يذكر على جوهر علاقتها بـ«فتح» وبقية الفصائل الفلسطينية. ولكن هل يحل لها الاعتراف مشكلة الجمع بين «طبيعتين: حكومة مسؤولة وحركة مقاومة؟ وحتى إن تمكنت من الجمع بين الدولة والثروة فهل يضمن لها هذا أن تنهي الحصار الاستراتيجي والسياسي الإسرائيلي الأشمل لكل الأرض المحتلة وليس للقطاع وحده بل انتزاع كل فلسطين كما يقول برنامجها؟

وتتعاظم الحيرة الاستراتيجية إن وضعنا في الاعتبار أن «حماس» تريد انتزاع الضفة والقطاع بالقوة ثم لا تطمئن إسرائيل بأنه سيكون لها وجود إن هي قبلت بهذه الصيغة بل تذهب إلى أنها سوف تحرر بقية فلسطين بالقوة أيضا. وهي تريد من إسرائيل هدنة طويلة المدى لتتمكن من بناء القوة العسكرية والسياسية التي تمكنها من ذلك تحديداً! وفوق ذلك فـ«حماس» تريد أن تحقق ذلك كله بينما تعرف أن حالة فلسطين تختلف عن جنوب أفريقيا حيث كان ثلاثون مليونا من الأفارقة يحاصرون خمسة ملايين من البيض بينما يواجه ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة والقطاع ضعف عددهم من اليهود. وتقول «حماس» إنها ستفعل ذلك بالرغم من اشتباكها في صراع مميت مع «فتح» التي لاتزال تشكل الفصيل الرئيسي في الحركة الوطنية الفلسطينية بالتاريخ والبنية الأساسية والرموز الكبرى والقدرات المادية والفكرية بل بتأييد القطاع الرئيسي من الطبقة الوسطى الفلسطينية.

بين الاستراتيجية وعقيدة القوة

الواقع أن «حماس» تملك «عقيدة قوة» وليس استراتيجية. وهي في ما يبدو حققت إنجازاً كبيراً بالمعايير السياسية الداخلية من تطبيق هذه العقيدة. وما حدث في رفح ينقل تطبيق هذه العقيدة إلى المستوى الإقليمي وفي مصر تحديداً. وبغض النظر عن المكاسب الجزئية التي حصلت أو تحصل عليها «حماس» من تطبيق هذه العقيدة في سيناء فالسؤال يبقى هو: ماذا يحقق لها كسر جزئي للحصار في وسط عربي منهار؟

لا شك في تقديرى أن «حماس» ستحصل على شيء من الاعتراف على المعابر، ولكنها تخطئ كثيراً جدا إن حلت مشكلة المعابر على حساب حل مشكلة غياب الاستراتيجية وتهاوي علاقاتها مع سلطة رام الله ومع القطاع الأكبر من السياسة الفلسطينية ثم مع مصر أيضاً.

وبكل أسف ورغم الأخطاء الواضحة التي ارتكبتها الحكومة في مصر فهي تشعر أنها جرحت، وأن «حماس» «لوت ذراعها» بأسلوب فيه تعبير عن «عقيدة القوة» التي نتحدث عنها. ورغم نعومة خطاب «حماس» في ما يتعلق بهذا الأمر فهي قد تكون خسرت مصر استراتيجياً حتى لو حصلت منها على تنازلات تكتيكية.

تحتاج «حماس» للتفكير ملياً في أزمة غياب «العبور» إلى فلسطين المحررة وليس في حل مرض لأزمة المعابر على الحدود بين القطاع ومصر. والأساس الممكن لاستراتيجية للتحرير تشمل أشياء تعرفها «حماس» حتى الآن: مصالحة وطنية حقة مع «فتح» وجميع الفصائل الأخرى، الانفتاح على الحركة الشعبية العالمية المناهضة للإمبريالية وبناء أمتن جسور مع القوى الشعبية في المحيط العربي والإسلامي الواسع.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام