Ad

يكشف لنا الكاتب الأميركي «روبرت كراسك» في كتابه «هاري هوديني... سيد السحر» حقيقة هوديني وبراعته في فتح الأقفال على مختلف أنواعها، والهرب من الخزائن المقفلة، وهي نتيجة جهد حثيث وتدريب طويل وصبور عكف عليه منذ طفولته، وليس من السحر.

الخزانة الفولاذية الجديدة كانت جاثمة فوق خشبة مسرح «يوستن بالاس» في لندن، وكان بابها مفتوحا على سعته، فيما بدا الساحر الأميركي الشاب «هاري هوديني» يتأهب للخطو داخلها. وليس على جسده سوى لباس السباحة.

في ذلك اليوم كانت العناوين البارزة لصحف لندن تقول: «هوديني يتحدى صانعي الخزائن... الساحر يعرض قدرته على الخروج من الخزانة المقفلة أمام أنظار جمهور المسرح». كان ذلك في عام 1904.

بعد أن صافح عددا من الحضور الذين صعدوا إلى الخشبة للتأكد من سلامة الخزانة وأقفالها، وبعد أن فحصه طبيب بدقة تامة، إلى حد تفتيش فمه خشبة أن تكون فيه أي أداة دقيقة يمكن أن تساعده على فتح الأقفال، وبعد مصافحته آخر رجل من النظارة، قال «هوديني»: دعوني الآن أدخل الخزانة... وأقفلوا الباب من ورائي.

أغلق الباب الفولاذي الثقيل، ووضعت ستارة حول الخزانة. وبينما كان الرجال يغادرون الخشبة، عزفت الأوركسترا موسيقى هادئة، واستقر الجمهور في المقاعد منتظرا وعيونه مثبتة على الستارة.

مضى نصف ساعة... فبدأ الناس يشعرون بعدم الراحة. صاحت امرأة بهلع: كيف سيكون بإمكانه أن يخرج؟!

همس رجل يعتقد أنه يعرف الجواب: «هوديني» ليس كأي واحد منا. إنه يستطيع أن يحول نفسه إلى شبح، وعندئذ يخرج من خلال شروخ الباب الدقيقة مثل الدخان.

ولما أبدت المرأة استنكارها، قال لها بثقة: صدقيني... إنها الحقيقة.

مرت أربعون دقيقة، فبدأ شخص بالصراخ عاليا: افتحوا الباب، وصرخت امرأة قبل أن يغمى عليها: لقد مات... لا يمكن أن يخرج من هناك أبدا.

مرت خمس وأربعون دقيقة، فأخذ الجمهور يصفر ويخبط بأيديه على مساند الكراسي، ووقف رجل غاضب وهو يتوعد بقبضته: أخرجوه... إنه بحاجة للمساعدة.

في تلك اللحظة بالضبط خرج «هوديني» من وراء الستارة، ليواجه جمهورا مستثارا تحول كله إلى زفرة ارتياح عظيمة.

وهرع رجال نحو الخشبة لتفحص الخزانة، وصاحوا منذهلين بصوت واحد: الباب مغلق!

وبقي السؤال منذ ذلك اليوم معلقا على شفاه الناس: كيف استطاع هوديني أن يفلت من الخزانة المقفلة بإحكام؟!

إن أحدا من جمهور تلك الليلة لم يستطع أن يخمن الجواب، والأكثر من هذا أن أحدا لم يعرف أن هوديني قد استطاع الإفلات من محبسه خلال أربع عشرة دقيقة فقط، لكنه فضل أن يظل جالسا وراء الستارة لما يقرب من نصف ساعة، تاركا الجمهور يغلي فوق مراجل الهلع!

في الحقيقة أن الجواب عن ذلك السؤال كان بسيطا للغاية إلى حد لا يمكن تصديقه. هذا ما يكشفه لنا الكاتب الأميركي «روبرت كراسك» في كتابه «هاري هوديني... سيد السحر» الذي ركز فيه على حقيقة مناقضة تماما لعنوان الكتاب، تقول إن هوديني لم يمارس السحر في حياته على الإطلاق، وإن براعته في فتح الأقفال على مختلف أنواعها، والهرب من الخزائن المقفلة، هي نتيجة جهد حثيث وتدريب طويل وصبور عكف عليه منذ طفولته.

في البداية يحدثنا «كراسك» عن أن «هاري هوديني» هو اسم مستعار لابن مهاجرين هنغاريين ولد في بودابست عام 1874، أما اسمه الحقيقي فهو «إريك صامويل ويس». وفي طفولته الشقية، كان يمارس مختلف الأعمال التافهة من أجل مساعدة أسرته الفقيرة، وكان في هذا السياق يتدرب أيضا بجهد على فك قيود يديه المربوطتين وراء ظهره بالحبال أو السلاسل، وعلى السير فوق الحبال المشدودة، لتقديم عروض بهلوانية لأطفال منطقته في نيويورك، مقابل بضعة سنتات.

وحين بلغ الرابعة عشرة استغرقته هواية اللعب بالأقفال، وتفكيكها إلى أجزاء صغيرة لمعرفة كيفية عملها، وكان كثيراً ما يدخل إلى دكاكين بائعي الأقفال في الجوار، ليمكث هناك ساعات طويلة من أجل هذه الغاية. وتطور الأمر فصار يجمع الأقفال حيثما وجدها، ويمضي الليالي والنهارات في تفكيكها وإعادة تركيبها، حتى أصبح بارعا في فتح أي قفل مهما كان نوعه ومهما كانت دقة صناعته، بما في ذلك الأصفاد التي يستعملها رجال الشرطة لتقييد المجرمين.

وذات يوم قرأ كتابا عن حياة الساحر الفرنسي الشهير في ذلك الزمان «جان يوجين روبرت هوديني» فغير ذلك الكتاب مجرى حياته تماما، إذ قرر بعد أيام أن يعمل ساحراً، أو بالأحرى أن يستثمر مهارته في عمل يشبه السحر، كما قرر، تكريما لبطله الفرنسي، أن يغير اسمه إلى «هاري هوديني»... وقد شاءت المقادير، في ما بعد أن يبقى اسم الساحر الفرنسي مدويا بفضل شهرة «إيريك» التي ذاعت في كل أنحاء العالم. وقد حاول إريك أو هاري، بعد أن أتقن لعبة الأقفال، أن يستعرض مهاراته من أجل كسب النقود، لكن حظه لم يكن مواتيا، إذ لم يجد قبولا من أصحاب المسارح المعروفة، واقتصر نصيبه المحدود من المال والشهرة على الحفلات الترفيهية المقامة في البيوت أو على المسارح الصغيرة المغمورة، ولذلك اضطر إلى العمل في سيرك في بنسلفانيا. وقد كان التنقل مع السيرك مرهقا، لكنه منح هاري فرصة لتعلم بعض الخدع الجديدة. وقد تعلم في تلك الفترة من لاعب أكروبات ياباني عجوز، كيف يبتلع الأشياء ويمسكها في حلقومه... ثم كيف يستخدم عضلات البلعوم في دفعها إلى الخارج مرة ثانية. وقد كانت تلك أثمن خدعة تعلمها في حياته.

ولأن هاري أدرك أن «مغنية الحي لا تطرب» فقد قرر أن يسافر إلى أوروبا، موقنا بأنه إذا صنع لنفسه اسما في لندن وباريس وبرلين، فإن أصحاب المسارح الكبرى في نيويورك سيتنافسون على الفوز به.

بادر فور وصوله إلى لندن عام 1900 إلى زيارة أحد أصحاب المسارح، وعرض عليه مهارته في فتح الأقفال، فوافق الرجل على تشغيله بشرط أن يستطيع تخليص يديه أولا، من «كلبشات» شرطة سكوتلانديارد!

فما كان من هاري إلا أن قال: إنه شرط عادل... عليك أن ترسل الصحافيين معي. إنني ذاهب إلى سكوتلانديارد عصر هذا اليوم.

عند وصوله إلى دائرة الشرطة كان الضابط المناوب «ميلفيل» سعيدا باستعراض كفاءة القيود الإنكليزية في تقييد حركة هذا الساحر الأميركي.

وضع القيد حول معصمي هاري وأقفله، ثم دعا الصحافيين قائلا: هيا بنا... سنعود بعد ساعة لكي نطلق سراحه.

استدار الصحافيون لمغادرة الحجرة مع الضابط، لكن صوت هاري جاءهم قبل أن يصلوا إلى الباب: قبل ذهابكم يا حضرة الضابط، من الأفضل أن تأخذ قيودك معك.

التفت «ميلفيل» فوجد «هاري» يلوح له بالقيود المفتوحة!

في الأشهر التالية كان اسم «هوديني» معروفا جدا في العواصم الأوروبية المهمة... وقد كان استعراض خروجه من الخزانة الفولاذية في مسرح «بوستن بالاس» واحداً من أعظم العروض الت ي أذهلت بريطانيا.

وعودة إلى سؤال الذهول والدهشة: كيف استطاع أن ينفلت من حبسه الفولاذي؟

الكاتب «روبرت كراسك» يكشف لنا أن الرجال الذين صعدوا إلى المسرح للتأكد من سلامة الخزانة كانوا جزءا من خطة «هوديني» للتخلص. فبعد أن فحصه الطبيب، بدأ هوديني بمصافحة الرجال واحدا بعد الآخر... لكن الرجل الأخير كان صديقا له، وكان يحمل في طية خاتمه مفكاً صغيراً ودقيقاً جداً، فأخذه منه وهو يصافحه، ثم خطا داخل الخزانة.

في الداخل استخدم هوديني المفك الدقيق في إزالة البراغي التي تشد الصفيحة المعدنية إلى القفل، واستطاع أن يفتح باب الخزانة من الداخل ويخرج، وبعد خروجه أعاد تثبيت البراغي فوق الصفيحة، ثم أغلق الباب!

رُبّ سائل يسأل بفزع: وماذا لو أن الخطة لم تنجح وأن ذلك الصديق، لسبب ما، لم يستطع إيصال المفك إليه؟!

لكي لا نشعر بالفزع الذي أصاب السائل، علينا أن نتذكر حالا أن «هوديني» القادر على إيقاف الأدوات في بلعومه، لا يمكن أن يترك حياته ألعوبة في يد المصادفات.

وما ينبغي قوله أخيرا إنه كان على أميركا أن تشكر الله كثيرا لأن «هوديني» لم يكن لصا... بل كان رجلا شريفا وطيبا جدا، وإلا لنظف جميع خزائنها، من دون أن يترك لها مجالا لتقييده أو حبسه!

* شاعر عراقي