Ad

كم غريبة فعلا هذه «الكويت»، يحكمها دستور لا يُطبق، وتديرها حكومة متخبطة، وسلطة ترعى الطائفية والقبلية، وتغذيها بالإحباط قوى ظلامية، ويغيب فيها القانون ويستشري الفساد، ومع ذلك يكون عيبها في الديموقراطية، ويتحمل المواطن هذا السوء كله؛ لأنه يريد أن يشارك في حكم بلاده وفقاً للدستور!

توافق مطلع الأسبوع الجاري مع مرور الذكرى الخامسة والأربعين لولادة الدستور، ولخص تجاهل مجلس الوزراء المناسبة في بيانه عمق الأزمة التي تعيشها الكويت، كما زادها ألماً اقتصار «الاستذكار الوطني» بمهرجان خطابي أقامه المنبر الديموقراطي، وبيان لمجلس الأمة، واجتماع للقوى السياسية.

بعد خمسة وأربعين عاماً من وضع الدستور والممارسة الديموقراطية، يعبّر الجميع عن قلقه على مستقبل البلد، ويؤكد أهمية مواجهة الفساد وقوى الظلام، ويحذّر من مشروع لتعطيل الديموقراطية، ومع ذلك يجب علينا أن نشعر بالفخر ونفرح بالمناسبة!

في 11/11/1962 التقت إرادة وطن رؤية حاكم ونوايا طيبة لرجال مخلصين، فاختلطت جميعها لتصيغ بحب مواد ميثاق يحكم بموجبه قائد متفتح دولة مستنيرة، فكان لزاماً أن يفضي الدستور إلى كل جميل شهدته الكويت، بدءا من رعاية الدولة للفنون والثقافة، وإقامة نظام للرقابة المالية، وإشراك المواطنين في الحكم عن طريق نوابهم، الذين يوصلونهم بحرية الى البرلمان، وانتهاء بضمان الحريات العامة والخاصة.

فدفعت الكويت ثمن الرغبة الصادقة بتقدمها، ردة تمثلت باستفراد السُلطة بالقرار، ورغبتها إعادة صياغة قواعد اللعبة السياسية وفقا لمعاييرها، فوقفت بوجه الشعب، وخالفت إرادته، لتصطف بعدها تباعاً على مهل، الكوارث جميعها التي حطمت وطننا.

كل هذا حدث ويحدث بسبب عدم تقبل بعض أفراد الأسرة الحاكمة بأنها أسرة تحكم ولا تملك، فدخلت في مواجهة مع الرغبة الشعبية، واستخدام بعض أبنائها الساحة السياسية ملعباً لصراعهم، فشهدت الكويت تزويراً لنتائج انتخابات مجلس الأمة عام 1967، ثم تعليقاً للعمل بالدستور لعشرة أعوام متقطعة، وتعديل الدوائر الانتخابية، والهدف من هذا كله تطويع رغبة المواطن وتقليص خياراته والحد من حريته، فانتهينا بمواجهات ديوانيات الاثنين والتي قوبلت بفرض مجلس وطني «مفصّل» بحسب فهم البعض للديموقراطية.

إن النتيجة الحتمية لجميع ما تقدم، انهيار نظام الدولة المالي في 1982، ثم سقوط الدولة بأكملها في ساعات عام 1990، ليعود الشعب ويفاوض نظامه على إعادة العمل بالدستور، مع ضرورة الوقوف على جزئية إيمان «النظام» بالديموقراطية، وفقاً لحادثة مؤتمر جدة الشهيرة.

اليوم، رغم بشاعة الشواهد ومرارة التجربة، وسلسلة الانكسارات والتدمير الذاتي، وبعد خمسة وأربعين عاماً، يأتي من يقول إن أزمة البلد سببها هذه الوثيقة المتضمنة 183 مادة، وأن الحل يكمن بتعليقها، حتى تهدأ النفوس وتصلح أحوال «الأسرة»، متجاهلاً حقيقة أن علاج الديموقراطية يكمن في المزيد من الديموقراطية، ومتجاوزاً احتكام الدولة الى دستورها ومجلس الأمة للخروج من أزمة بيت الحكم.

كم غريبة فعلا هذه «الكويت»، يحكمها دستور لا يُطبق، وتديرها حكومة متخبطة، وسلطة ترعى الطائفية والقبلية، وتغذيها بالإحباط قوى ظلامية، ويغيب فيها القانون ويستشري الفساد، ومع ذلك يكون عيبها في الديموقراطية، ويتحمل المواطن هذا السوء كله، لا لشيء سوى لأنه يريد أن يشارك في حكم بلاده وفقاً للدستور!

أغلقوا عيونكم، تأملوا بلادي من دون دستورها، ثم افتحوها على اتساعها، تشبعوا بنوره، فالكابوس لن يدوم طويلاً، متى ما صحَت النوايا وخلُصت الأفعال، هذا طبعا إن صلُح أصحابها!