الحكم الصادر أخيراً بحق ضابط وشرطي مصريين، يبعث على «الارتياح». فبعد توالي قصص التعذيب على يد أجهزة الأمن والشرطة في مصر، أصبح من الضروري صدور مثل حكم كهذا يهدّئ النفوس ويحتوي الغضب ويحرض على شيء من الأمل.

Ad

وللتعذيب تاريخه الطويل البشع على مَرّ عصور كثيرة مضت، وله شهرته كممارسة، ربما، لم تحد عنها في الماضي أي سلطة في العالم، وله حكايته الخاصة في شقها الغربي، التي انتهت نهاية شبه سعيدة بمنعه وتجريمه، وللحكاية تلك استثناءاتها، ونحن في العالمين العربي والإسلامي طرف أساسي فيها، فيكاد ضحايا التعذيب على يد أبناء العالم المتحضر، ينحصرون في العرب والمسلمين المتهمين بالتشدد أو الإرهاب. ولابأس أن نذكر أيضاً التعاون الوثيق بين العوالم الثلاثة، والمتمثل في عمليات التسليم والقيام بالأعمال القذرة بالإنابة، وهذا يقودنا إلى حكايتنا الخاصة البائسة مع التعذيب، وفيها أنه أصبح في وقتنا الحالي بعد طول ممارسة، إما مشرعناً أو شبه مشرعن، كما هي الحال في سورية ومن شابهها -حيث حالة الطوارئ والأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية التي تحمي مرتكبي التعذيب- وإما أنه لا يملك الغطاء القانوني إياه، لكنه أيضا، لا يواجه بنص قانوني واضح ودقيق يجرمه ويعاقب عليه.

هذا على الصعيد القانوني المحلي، أما على الصعيد الدولي، فاتفاقية مناهضة التعذيب، مازالت لا تتعدى منطق «المجاملة الدولية» من قبل بعض الدول التي صادقت عليها.

وهذا يقودنا إلى الصعيد العملي، إذ لايزال التعذيب وسيلة «تأديب» وعقوبة غير منصوص عليها في القانون وأداة انتقام وطريقة لانتزاع الاعترافات في الوقت نفسه، وإن لم يكن في مراكز توقيف الشرطة أوقضايا المعتقلين السياسيين، ففي إطار الحرب على الإرهاب، التي غالباً ما تمارس ببشاعة الإرهاب نفسه.

على ذلك، يغدو الشعور بالارتياح لحكم قضائي ضد مرتكبي التعذيب في إحدى الدول العربية، مبرراً من حيث هو ارتياح لا أكثر ولا أقل!

فإنزال العقوبة العادلة بمرتكبي التعذيب، من شأنه أن يشكل عامل ردع نسبي ضد هذه الممارسة في الدولة المعنية من جهة، وهو من جهة أخرى، يخفّف من وطأة ذلك الشعور بأن ضحية التعذيب هو لاشيء، نكرة، غير معترف بإنسانيته أو قيمته كفرد، وهو ما يمكن أن نعتبره، الشكل الثالث من أشكال التعذيب، بعد الجسدي والنفسي. فهذه العدالة النسبية إذاً، ترد للإنسان شيئاً من الإحساس بإنسانيته وبمواطنيّته ضد من انتزعوها قسراً على منصة التعذيب، وهي أيضاً تنشر وعياً عاماً بأن أي تهديد لحقوق الإنسان يطول أي مواطن، إنما هو تهديد يطول أفراد المجتمع بأسره، مما يقتضي وحدة موقف من التهديد ومرتكبيه.

لكن تلك النتائج في الحقيقة، ليس من شأنها أن تولد فقط من رحم حكم قضائي يتيم أو أحكام معدودة هنا وهناك، في ظل ارتكاب منهجي ومعمم للتعذيب.

ومن دون إغفال الدور المهم الذي تقوم به المنظمات الحقوقية العربية في هذا الإطار، فإن دوراً مكمّلاً لها لايزال غائباً عن التحقق أو في أحسن الأحوال، لايزال في أطواره الأولى، ويتمثّل في بلورة ما يسميه الدكتور منصف المرزوقي بـ«الإنسان الحرام»، الذي «تضمن له المجموعة حرمة الروح وحرمة الجسد بغض النظر عن جنسه وعرقه ووضعه الطبقي... وذلك عبر الأدب والفلسفة والفن والسياسة في إطار برنامج واعٍ طويل المدى...».

ومن التجربة السورية، عرفت السنوات القليلة الماضية أشكالاً مختلفة مما يطلق عليه تعبير أدب السجون، قصةً وروايةً وشعراً، لمعتقلين ومعتقلات عايشوا التجربة الأليمة بشخوصهم، أسهبت تلك الإصدارات في الحديث عن تفاصيل الأجساد المنهكة المهلهلة تحت وطأة التعذيب ومهانته، وصوّرت الجلاد كما الضحية، بغض النظر عن انتمائها السياسي أو الفكري، كما تعرضت بعض المسلسلات الدرامية السورية، وإن بحذر، إلى قضية التعذيب، فصوّرت المعتقل المفرج عنه في أغلب الأحيان، كشخص مختل غير متوازن من جراء ما تعرض له من تعذيب أثناء اعتقاله.

لكن الأعمال الأدبية المذكورة تبقى –لأسباب عديدة- محصورة ضمن شريحة ضيقة من القراء، والأعمال الدرامية إياها لا تتعامل مع جريمة التعذيب إلا باعتبارها قدراً لحق بصاحبه أو جزاءً محتّماً لخارقي المحظورات السياسية، وبالمثل، تغيب القضية عن معظم الإنتاج الإعلامي المرئي والمكتوب والمسموع، وكذا أشكال الإبداع المختلفة في شتى الدول المعنية.

إحدى المدونات المصرية التي تبنّت قضية عماد، ضحية التعذيب التي حكم فيها على الشرطي والضابط المصريين، تبنّت شعار «مصر كلها عماد محمد علي الكبير»، مثل هذه المبادرات هي مجرد بداية، ومكافحة هذه الجريمة يجب أن تتجاوز إطارها الحقوقي لتشمل جميع الفعاليات الثقافية والفكرية والأدبية والإعلامية في مجتمعاتنا، فالتعذيب ليس أقل كارثية من الزواج العرفي وتعاطي الممنوعات والبطالة، لكنه أقل حظاً بكثير من أن يطرح كقضية تنال من كرامة الفرد والمجتمع. والمبادرات الفردية والجماعية لفعاليات المجتمع المختلفة، هي المطلوبة للوقوف في وجه هذا الانتهاك للحق الإنساني، ويطيب لي أن أتفاءل بمثل هذه المبادرات، فأقول قولة غاندي: «أولاً يتجاهلونك، ثم يضحكون منك، ثم يحاربونك، ثم تكسب». نحن كلنا عماد محمد علي الكبير.

* كاتبة سورية