أنا عاشقة للترحال... مريضة بحب السفر... مسكونة بنداء خفي... بإحساس غامض، عصي على الفهم والإيضاح، يغرقني شجن معذب، لا تفسير له... إلا الهرولة صوب المطارات، ومطاردة حنين مطمور في اللاوعي مني، يدفعني باتجاه مؤشر نابض، حيثما أشار، احمل حقيبتي... وافتتان قلبي شطر مجهول ينتظر، وغالباً ليس هناك إلا وهم في الانتظار.

Ad

سافرت، ودرت العالم حتى ذابت جوازات السفر...

مدن تأخذني مني، ومدن أنسى تضاريسها وأنا فيها،

بلاد تستوطن الفؤاد، وبلاد لا تترك أثراً في الذاكرة، كأن المدن أرواح ننجذب إليها أو لا ننجذب.

كيمياء سرية تربطني بأربع دول، لافكاك من مغناطيسيتها... لا تعويذة ولا استعاذة تنفع معها.

وهي: مصر، لبنان، باريس، كارلوفيفاري، أدري بسر الغواية... ومنبع الفتنة... وأسباب الغرام. في ثلاث منها. إلا مصر... وبالتحديد القاهرة... حبي لها ورطة لا حل لها... ولا معرفة أسباب... ولا فطام يُفيد...

برغم ما تعانيه من اختناق الشوارع... ازدحام الطرقات... تلوث الهواء... الضجيج... التسمم الغذائي الذي يصيبني في الغالب، إلى جانب الإرهاق والتعب من مشاوير قصيرة تأكلها ساعات طويلة من الانحباس المروري، والكثافة السكانية.

ومع كل هذه المتاعب لا نجاة من أسرها... ولا وقاية تسد المنافذ.

وبرغم إجهاضي لطفلي الأول فيها... إلا أنني عدت إليها... وبعد خيانة أمانة تعرضت لها من محاميتي وصديقتي... هجرتها وهجرت القاهرة معها... وقلت انتهيت منهما معاً.

ولكن ما كان هذا الكلام إلا مراوغة الوهم... لأن سحرها شرك لا مفر ولا مهرب منه... أخذتني منذ طفولتي رهينة... فلم تعتقني... ولم تترك لي حرية الاختيار.

في الربيع الماضي قلت هذه آخر مرة آتي إليها... ودعت كل شيء فيها... «الزحمة والدوشة» ودخان التلوث البيئي، التعب والأصدقاء الطيبين... ودعتها وأنا أقول بحنجرتي الملتهبة، وعيوني المحمرة: سأغلق هذا الباب ورائي.

وكم كنت في فرحة انعتاقي واهمة، فما أن مضت شهور الصيف وعدت من باريس، حتى عاودني حنيني المرضي إلى القاهرة.

مشاعر فياضة لا مكبح لها... أُذكر نفسي بكل ما غاب عنها... وبكل إصرار يداهمني وله جامح لا مفر منه... يدفعني للعراك مع نفسي.

أي سحر خفي تمتلكه هذه المدينة؟

ما سر انجذابي إليها؟

قالت صديقتي المصرية: إنها طاقة الفراعنة الموغلة في القبور الهرمية.

وقلت بعد نبش أعماقي بأنها سحر الأبيض والأسود، اقصد الأفلام المصرية، التي غذت طفولتنا ومراهقتنا وصبانا بكل مفردات التراث والثقافة، والشوارع، الحارات، النيل، والأغاني، كلها التصقت بنا، وحنيننا إليها هو حنيننا إلى طفولتنا... إلى ذاكرة مشبعة ومرتبطة بمشهد أو أغنية، لا مجال للهروب منها، نسيانها يعني نسياننا.