الإشكالية الحقيقية في اعتقادي تتمثل في أمرين؛ الأول، وهو الأهم، أن الدستور بكامله صار يُتعامل معه وكأنه قائمة للطعام، يختارون منها ما يشاؤون ويعطلون منها ما يشاؤون متى ما أرادوا، والأمر الثاني، هو أن مفهوم كلمة الشريعة الواردة في نص المادة الثانية، لايزال ملتبساً لدى الجميع تقريباً.أدرك تماماً مدى جمال وبريق فكرة تعديل المادة الثانية من الدستور لدى الإسلاميين بحيث تصبح الشريعة «المصدر الرئيسي للتشريع» بدلاً من كونها «مصدراً رئيساً للتشريع»، وأعرف أن هذا الأمر يكاد يكون مطمحاً مقدساً لدى العوام منهم على وجه الخصوص. كما أعرف أيضا لمَ لا يجرؤ أي نائب أو ناشط أو كاتب إسلامي على رفض تبني هذه الفكرة في الحال ورمي كل ما في يده جانباً، ليس من باب الإيمان المطلق بهذه الفكرة دائماً، إنما بسبب ضغط القواعد والناخبين الذين تمت برمجتهم عبر زمن طويل على الإيمان بأن هذا التعديل سيمثل القفز بكل شيء من حولهم من ضفة الكفر إلى ضفة الإيمان!
اليوم، وفي خضم الظروف السياسية المختلجة التي يعيشها البلد، تعود المطالبة بتعديل المادة الثانية من الدستور مجدداً وبالشعارات القديمة نفسها، لكنني وبعد معايشة طويلة لحلقات ملحمة «تعديل المادة الثانية من الدستور»، وصلت اليوم إلى قناعة مؤداها أن أغلب المطالبات، بما فيها المطالبة الجديدة، ليست سوى فصول متكررة من المسرحية السخيفة إياها، التي كانت تطلقها السلطة كلما احتاجت أن تخفف من التركيز الشعبي والإعلامي على مشاكلها السياسية، ليقع الإسلاميون بكل «طيبة» في فخ تمثيلها والاستبسال في تأدية أدوارها!
وبطبيعة الحال، فلن يوجد موضوع قابل للاشتعال كتعديل المادة الثانية بقدرته الفائقة على الاستحواذ على نظر الصحافة وعلى استقطاب المتابعة الشعبية وكذلك على إحراق أي إجماع نيابي كان قد تكوّن، أو يمكن أن يتكوّن، في مواجهة الفساد والاضطراب الحكومي!
لكنني ممن يؤمنون بأن النص الحالي للمادة الثانية لا يحمل أي إشكالية حقيقية تعوق جعل الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، فالمذكرة التفسيرية قد ألزمت المشرع بالأخذ منها ما وسعه ذلك، لكن الإشكالية الحقيقية في اعتقادي تتمثل في أمرين؛ الأول، وهو الأهم، أن الدستور بكامله صار يُتعامل معه وكأنه قائمة للطعام، يختارون منها ما يشاؤون ويعطلون منها ما يشاؤون متى ما أرادوا، أي أن المشكلة هي انعدام المصداقية والرغبة الصادقة في الالتزام بالدستور وبالمذكرة التفسيرية التي ألزمت المشرع بالأخذ من الشريعة ما وسعه ذلك. والأمر الثاني، هو أن مفهوم كلمة الشريعة الواردة في نص المادة الثانية، لايزال ملتبساً لدى الجميع تقريباً، وربما يكون أكثر التباساً لدى الاسلاميين قبل غيرهم، فبعضهم يظن أن الشريعة تتمثل فقط في رؤية جماعته للدين، وأن كل الرؤى الأخرى ليست من الشريعة في شيء، وبعض آخر من الإسلاميين وغيرهم يختزل الشريعة في مسألة الحدود والعقوبات الشرعية بشكل سطحي بشع، ويغفل أن أوجب واجبات الشريعة هي الحريات واختيار السلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم وحقوق الأمة في التعبير والحياة بكرامة، قبل الوصول الى مسألة العقوبات والحدود الشرعية التي تعطّل عندما يكون هناك أدنى شك في إمكان تطبيقها على الجميع بالحق والعدل، وأنها لن تغدو وسيلة يضرب ويقمع بها الضعيف والفقير، وينجو منها الغني والقوي!
أدرك أن بعض الاسلاميين لا يجرؤون على مواجهة قواعدهم بمثل هذا الطرح الذي يتصادم مع ما في الأذهان من برمجة قديمة، لكن ما يهمني اليوم على الأقل هو أن يدرك الناس أن طرح هذه المسألة الملتبسة، وفي هذا التوقيت بالذات، ليس سوى فصل سخيف آخر يراد منه تنفيذ مآرب أخرى أبعد ما تكون عن الشريعة!