خطاب بن لادن الأخير، الذي أعلن فيه بكلام غير مباشر بدء نُذُر هزيمة «القاعدة» جاء نتيجة لعدة عوامل مهمة كثيرة، منها: قلبُ المجنِّ الديني الرسمي وغير الرسمي لإرهاب «القاعدة»، فكانت الخطوة الأولى رسمية من مفتي السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ الذي حذر الشباب من الذهاب إلى الخارج بحجة قصد «الجهاد» في سبيل الله.- 1 -
الخطاب الجنائزي، الذي ألقاه بن لادن أخيراً، وهو حزين ومكتئب ومتألم، وفيه المرارة كل المرارة، والخيبة كل الخيبة، والهزيمة كل الهزيمة، لعفاريته وشيطاينه في العراق، نتيجة لتضامن الشعب العراقي ووعيه، ووقوف العشائر العراقية النبيلة في الأنبار وغير الأنبار، بعد أن تكشّف للجميع أن «القاعدة»، وشيوخها، ومفتيها، وحاملي مباخرها، وناشري خطابها، والمبشرين بخلافتها الكرتونية، والداعين إلى نصرها على منابر المساجد، والمُنظّرين لها، والراجين دولتها، والمنتفعين بذهبها، هي حطب الماضي «المسوّس» المنخور، الذي لا ينفع إلا لإثارة الفوضى المدمرة، والفتنة الكبرى، وبعث عظام الماضي السحيق، وإلباسه ثياب الحاضر والمستقبل، ليبدو المشهد العربي للعالم هزيلاً، وتهريجياً، ومضحكاً مبكياً، كما هي عليه الحال الآن.
- 2 -
لماذا هذا الخطاب الجنائزي الآن؟
خطاب بن لادن الأخير، الذي أعلن فيه بكلام غير مباشر بدء نُذُر هزيمة «القاعدة» ومن معها من الميليشيات الدينية الأخرى المسلحة، التي نشرت الفوضى المدمرة في العراق وفي غير العراق، جاء نتيجة لعدة عوامل مهمة كثيرة، منها:
1- قلبُ المجنِّ الديني الرسمي وغير الرسمي لإرهاب «القاعدة». فبعد هذا الصمت الطويل، الذي فسّره البعض بأنه علامة من علامات الرضا على ما تقوم به «القاعدة»، جاءت خطوات دينية ثلاث تميط اللثام عن وجه «القاعدة» القبيح، وتسحب من تحتها البساط الديني، ودعاوى الجهاد السابقة. وكانت الخطوات الأهم من السعودية، فكانت الخطوة الأولى رسمية من مفتي السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ (جريدة «الوطن» السعودية 2/10/2007) الذي حذر الشباب من الذهاب إلى الخارج بحجة قصد «الجهاد» في سبيل الله، لأن الأوضاع مضطربة، والأحوال ملتبسة، والرايات غير واضحة، مشيراً إلى أنه ترتب على ذلك العديد من المفاسد العظيمة، وبيّن آل الشيخ أن هؤلاء الشباب لم يبلغوا في العلم مبلغاً، يميزون به بين الحق والباطل، فكان هذا سبباً لاستدراجهم والإيقاع بهم، وعدد آل الشيخ المفاسد العظيمة لما يُسمّى بالجهاد في الخارج.
وكانت تلك الفتوى من مفتي السعودية، الضربة الدينية القاسية على رأس أفعى «القاعدة» التي أصابتها بدوار دائم، خصوصاً أن «القاعدة» تعتمد كثيراً على تجهيل الشباب السعودي الغرّ بخطابات دينية مزوّرة، وتدفعهم إلى أتون جهنّم في العراق، ليرقوا بعد ذلك إلى جنة السماء، كما تعدهم، وتضحك على لحاهم.
- 3 -
وكان سلمان العودة الداعية السعودي الأشهر والأشرس ومُلمّع «القاعدة» الديني، قد تاب إلى الحق والحقيقة قبل ذلك، وأعلن في برنامجه «حجر الزاوية» في تلفزيون MBC، كما أعلن في جريدة «الشرق الأوسط» أن «الأمة الإسلامية لم تمنح أحداً الحق في أن يتخذ مواقف الحرب، أو يكون متحدثاً باسمها».
وتساءل العودة موجهاً خطابه التوبيخي اللائم إلى زعيم القاعدة «كم من الدماء أريقت؟ وكم من الأبرياء والشيوخ قتلوا وشرّدوا تحت اسم «القاعدة»؟ أيسرّك أن تلقى الله وأنت تحمل عبء هؤلاء على ظهرك؟ من المسؤول عن شباب وفتيان في مقتبل أعمارهم وفي نشوة حماسهم، ذهبوا في طريق لا يعرفون نهايته، وربما ضلّت بهم هذه السبل، وغابوا في متاهات لا نهاية لها؟».
ويضيف العودة متسائلاً بقسوة وبشكل توبيخي واضح «ماذا جنينا من تدمير شعب بأكمله كما جرى في العراق وأفغانستان؟ بل جرّت هذه الحروب إلى حروب أهلية أخرى تُنذر بالشؤم والهلاك على هذه الدول ومن جاورها. ومن المستفيد من محاولة تحويل المغرب والجزائر والسعودية وغيرها إلى بلاد خائفة لا يأمن فيها المرء على نفسه؟ هل الوصول إلى السلطة مقصد؟
وهل هناك تصميم على الوصول إلى الحكم، ولو على جثث الآلاف المؤلفة من المسلمين؟ من المسؤول عن ملاحقة العمل الخيري والشك في كل مشروع إسلامي، ومطاردة الدعاة في كل مكان بتهمة العنف والإرهاب؟ ومن المسؤول عن اكتظاظ السجون بالشباب، حتى أصبحت هذه السجون مفرخة لموجة جديدة من التكفير، والغلو، والعنف، والتطرف؟
وهذا الكلام القاسي والتوبيخي الذي يكاد يتهم بل يدين بن لادن وقاعدته بالكفر والخروج من الملّة، لم يأتِ من درويش من دراويش الصوفية المنعزلين في تكاياهم، ولا من شيخ من شيوخ الدين المغمورين في السعودية، ولكنه يأتي من شيخ دين كان له التأثير الكبير على الشباب السعوديين المُغرّر بهم، الذين اندفعوا بقوة خطاب العودة الديني وفتاواه المتعصبة إلى أفغانستان والعراق، حتى إلى لبنان والجزائر ومناطق أخرى من العالم العربي.
فسلمان العودة كان بمقام الأب الروحي God Father الأكبر لـ«القاعدة»، وهو أحد الموقعين على البيان الشهير، الذي دعا فيه مشايخ السعودية إلى الجهاد في العراق، وهو الذي دافع عن «القاعدة» وإرهابها، عندما كانت في الأنبار، وكتب مقالته المشينة «أهزوجة الفلوجة» وهي أهزوجة الهزيمة، التي قال فيها ممجّداً جرائم الإرهاب في الفلوجة:
«وها هنا سوف تُزرع البطولات التي تصنع المجد، والتاريخ، والاستقلال.
والفلوجة تعني الفلج «الانبثاق» والغلبة والانتصار؛ فهو فأل حسن في تغلّب الذين يدافعون عن الحق والفضيلة، والاستقلال».
ثم يعِد الشيخ العودة الإرهابيين بالنصر المبين، بقوله في «أهزوجة الفلوجة»:
«علينا الثقة بوعد الله والصبر والإيمان والمحافظة على رباطتنا وسكينة قلوبنا، وألا نُنفّذ هذا الغضب والقهر المحتدم على إخواننا المسلمين مهما كان الأمر».
ويدعو الشيخ العودة للإرهابيين -الذين وصفهم بالأسود مرة، وبالمجاهدين مرة أخرى- بالنصر، ويقول:
«الدعاء الدعاء يا أمة الإسلام كم ينصر الأسود الدعــاء أهدِ «فلوجة الفدا» منك سهما ً صادق القوس قد براه الصفاء اللهم يا مجري السحاب، منزل الكتاب، هازم الأحزاب، انصر المجاهدين».
والشيخ العودة أخيراً -كما سبق أن قلنا في مقالنا السابق المنشور هنا على هذه الصفحة «عودة الوعي الديني وانتصار الليبرالية»- هو الذي تبرأ من بن لادن وأفعاله في برنامجه «حجر الزاوية» في تلفزيون MBC. وكان هذا التبرؤ سوطاً دينياً قاسياً، جلد ظهر الثعبان «القاعدة»، وساهم في تفريق جمع أفرادها، وذهاب ريحهم في العراق، كما فهمنا وأفهمنا بن لادن في خطابه الجنائزي الأخير.
«وللحديث صلة».
* كاتب أردني