Ad

لقد بات واضحاً أن واشنطن تخلت في اللحظات الأخيرة عن حلفائها في لبنان، عندما «نصحتهم» وبقوة بعدم الإقدام على استخدام أكثريتهم البرلمانية وانتخاب رئيس للجمهورية منهم بالنصف زائداً واحداً «حرصاً على الاستقرار والسلم الأهلي».

كما فعلت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، بعد غزوها للعراق في 2003، حيث قدمت بلاد الرافدين على طبق من فضة للإيرانيين، تقوم اليوم بالفعل نفسه في لبنان مع تغيير طفيف في الأسلوب والمعطيات، ومع الإبقاء على الجوهر، وهو أن إدارة بوش لم تتعلم من دروس العراق الدموية، بل استمرت في اتباع سياسة المغامرة غير المدروسة التي جرّت وستجرّ الويلات على سياستها الخارجية وعلى حلفائها في المنطقة العربية.

لقد بات واضحاً أن واشنطن تخلت في اللحظات الأخيرة عن حلفائها في لبنان، عندما «نصحتهم» وبقوة بعدم الإقدام على استخدام أكثريتهم البرلمانية وانتخاب رئيس للجمهورية منهم بالنصف زائداً واحداً «حرصاً على الاستقرار والسلم الأهلي» اللذين هدّدت المعارضة باللعب بهما، أو بالإطاحة بهما لا فرق. وكأن واشنطن قد اكتشفت، في ربع الساعة الأخير، أن المعارضة اللبنانية تملك قوة واقعية على الأرض اللبنانية لا تملكها الموالاة، كذلك فإنها -أي واشنطن- لا تستطيع أن تقدم لحلفائها في 14 آذار أكثر مما قدّمت، وهو إطلاقها الشعارات صبحاً وظهراً ومساءً وكلما حانت لها الفرصة، وليس بالدعم الكلامي وحده تعيش الموالاة... هذا في الظاهر، أمّا ما خفي فهو أعظم، فقد اكتشفت الموالاة، متأخّرة، أنها لم تكن أكثر من «ورقة مفاوضة» في يد الأميركيين للتقرب من سورية في محاولة فاشلة لعزلها عن الخط الاستراتيجي الأميركي، وعندما ثبت للموالاة بالدليل الحسي أن واشنطن قد لعبت وتلاعبت بها كان الوقت قد فات لخروجها من المأزق بأقل ما يمكن من ماء الوجه، وهذا القول هو التفسير الحقيقي لسلسة التنازلات التي قدمتها الموالاة للمعارضة ابتداءً من تبني ترشيح قائد الجيش العماد ميشال عون للرئاسة، بعد أن رفضت هذا الترشيح بالمطلق عندما تقدّمت به «الترويكا» الأوروبية في مبادرتها الأخيرة التي لم يمرّ عليها الزمن، وانتهاء بقبولها تعديل الدستور من أجل إضفاء الشرعية الدستورية لانتخاب العماد ميشال سليمان، وانتهاء بما يمكن أن تقبل به، نتيجة ضعفها، برئيس جديد لحكومة غير السنيورة وغير سعد الحريري. وبذلك تكتمل حلقة الانتصار الكامل للمعارضة التي أثبتت وجودها على أرض الواقع، وهذا الانتصار سوف يستفيد منه حلفاؤها الإقليميون وبالأخص سورية وإيران، وبالتالي يشكل نكسة للمشروع الأميركي في الشرق الأوسط، وربما تكون هذه النكسة بمنزلة «رصاصة الرحمة» لهذا المشروع. ولإثبات هذا الفشل فإن الدكتور غطاس خوري أحد المقربين جداً من سعد الحريري، والمرشح الخفي لرئاسة الجمهورية قال لمجلة «التايمز» الأميركية في عددها الصادر في 2 ديسمبر الجاري ما يلي: «مع عودة الولايات المتحدة إلى فتح قنوات اتصالاتها مع سورية، بات واضحاً أن واشنطن لم يعد باستطاعتها ممارسة الضغط على دمشق. لقد فهمنا الرسالة وتصرفنا على أساس هذا الفهم».

لكن الرسالة الأميركية التي فهمها غطاس خوري، أحد الأقوياء في تجمع 14 آذار، لم تكن الأولى، بل بالإمكان القول إنها كانت الأخيرة. فقد سبقتها رسالة تلقاها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وقائد جناح الصقور، في هذا التجمع عند زيارته إلى الولايات المتحدة الأخيرة والتي عاد منها ليستقيل من جناح الصقور وينضم إلى جناح الحمائم، وهو الذي قال: نحن (أي 14 آذار) جزء من المشروع الأميركي. فماذا حدث في زيارته تلك؟

المعلومات الخاصة والعامة إذا اجتمعت معاً تعطي ملامح الصورة وأبعادها بشكلها شبه الكامل، المعلومات العامة تفيد أن جنبلاط اجتمع، خلال زيارته إلى واشنطن، إلى معظم صناع القرار الأميركي، وعلى رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني، المكلف من الرئيس بوش بمعالجة الملف اللبناني. المعلومات الخاصة تشير إلى بعض التفاصيل التي حملها جنبلاط معه ووضعها أمام سعد الحريري في باريس، ثم أمام عدد قليل من أنصاره الحزبيين لتبرير تركه الصقور وانضمامه إلى الحمائم. التفاصيل تشير إلى أن جنبلاط لدى اجتماعه بنائب الرئيس الأميركي لم يوجه إليه سؤالاً حول ما هو موقف واشنطن من رئاسة الجمهورية، ومن تراه الأفضل لتولي الرئاسة بعد إميل لحود، بل أبلغه قراراً اتخذته جماعة 14 آذار عندما قال له: لقد قررنا أن نجري انتخابات الرئاسة على أساس النصف زائد واحد، وهو عمل ديموقراطي لا يتعارض مع مبادئ الدستور. لاحظ جنبلاط، كما ذكر في ما بعد للحريري ولعدد قليل من أنصاره، أن تشيني كان منزعجاً، وقد أظهر انزعاحه هذا بالملامح التي ارتسمت على وجهه. لكنه قال لجنبلاط: أنصحك بالعودة إلى غبطة البطريرك الماروني صفير في هذا الموضوع. قال جنبلاط لأصحابه إنه استغرب أن يأتي مثل هذا الجواب من نائب رئيس أقوى قوة سياسية وعسكرية في العالم. لكنه أخفى هذا الاستغراب وقال لتشيني ما معناه: هل أفهم من ذلك أنكم لا توافقوننا على انتخاب رئيس جديد بصورة ديموقراطية ونحن نملك الأكثرية النيابية؟ قال جنبلاط للذين نقل إليهم هذا الحديث إن تشيني كرر جوابه بوجوب العودة إلى أخذ رأي وموافقة البطريرك الماروني. ثم انتقل تشيني للحديث في مواضيع أخرى مركزاً على أهمية ربح «المعركة الديموقراطية في العراق» وعلى خطورة امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية و«التي ستوصلها عاجلاً أم آجلاً إلى امتلاك السلاح النووي».

بعد خروجه من مكتب تشيني، ولدى وصوله إلى مركز إقامته في واشنطن، اتصل جنبلاط بأحد أركان حزبه النائب أبو فاعور في بيروت وطلب منه أن يتوجه فوراً إلى بكركي وأن يعقد خلوة سرية مع البطريرك ويسأله سؤالاً واحداً محدداً: هل توافق على انتخاب رئيس للجمهورية بالنصف زائد واحد؟

نفذ أبو فاعور المهمة وكان جواب البطريرك الماروني بالنفي القاطع، وتلقى جنبلاط هذا الجواب هاتفياً مما دفعه إلى مقابلة «ستيفن هادلي» مستشار الأمن القومي للرئيس بوش وأبلغه بما دار بينه وبين تشيني، ولم يكن جواب هادلي مغايراً لـ«نصيحة» تشيني، مما دفع جنبلاط إلى سؤاله: إذاً كيف يمكن أن تساعدونا؟ اقترح هادلي ممارسة ضغوط اقتصادية على شخصيات نافذة في المعارضة بالإضافة إلى «نصيحة» أخرى بضرورة أن تغير 14 آذار استراتيجيتها لأن واشنطن تريد للبنان الاستقرار خوفاً من الوقوع في الفوضى.

قبل مغادرته واشنطن اتصل جنبلاط بسعد الحريري مقترحاً عليه اللقاء في باريس لبحث «أمر خطير جداً» بعيداً عن الأضواء الإعلامية الناشطة في بيروت، واجتمع الاثنان واتفقا على اتباع تكتيك يتضمن نصف مناورة هو تمهيد الطريق لتبني ترشيح العماد ميشال سليمان مع ما يقتضيه من تعديل للدستور، لعل هذا الترشيح يغضب العماد ميشال عون الذي كان قد أعلن رسمياً أنه مرشح، ولن يعود عن ترشيحه بعد فشل المبادرة الأوروبية. ولعل هذا الغضب يترجم إلى «أقوال جارحة» يوجهها عون إلى ميشال سليمان وبذلك يتم الفصل بصورة نهائية بين الموالاة وقيادة الجيش، لكن عون لم يكن عند حسن ظن الحريري وجنبلاط، بل استقبل إعلان الموالاة بالتأييد الذي بات معروفاً.

نقطة هامة: اتفق جنبلاط والحريري على إبقاء أعضاء وقياديي 14 آذار خارج إطار الصورة الأميركية، وخارج إطار ما يقررانه لذلك فوجئ هؤلاء القادة خاصة سمير جعجع والرئيس الأسبق أمين الجميل، بمبادرة ترشيحهم لقائد الجيش، التي ثبت أنهم تبلغوها عن طريق الإعلام، مما دق أول إسفين في تضامن 14 آذار وبالتالي السير في طريق الشرذمة.

... وعلى أمل ألا يتحول النقاش الدائر بين السياسيين المتنافسين حول التعديلات الدستورية وتشكيل الحكومة القادمة بعد انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية... إلى جدل بيزنطي حول من خُلِقَ أولاً الدجاجة أم البيضة، وعلى أمل أن تصل هذه الكلمات إلى القارئ والأزمة اللبنانية قد شارفت على الانتهاء، يعيش اللبنانيون، في مختلف أهوائهم ومشاربهم السياسية وغير السياسية حالة القلق الشديدة ولسان حالهم يقول: في لبنان الأخضر... في بلاد الأرز أثبتت التجارب أن عمر الفرح... قصير.

* كاتب لبناني