نحن في أمر الشعر لا نشبه الغربيين كثيراً بالتأكيد، لكن هناك أكثر من نقطة لقاء، تتضح في مراحل بعينها.

Ad

لعلّ التناقض في ظاهرة العلاقة بين الشاعر، الناقد، الجمهور المثير للدهشة، واحدة من نقاط الشبه هذه الأيام.

في الحال الأميركية، وهي أكثر حالات الغرب حيوية وغزارة في كلّ شيء، يحتل الشعر موقعاً رفيعاً لا عهد للأدب الأميركي به من قبل، فعدد الشعراء لديهم هذه الأيام، أكثر من أي مرحلة أميركية، وغير أميركية، تتبعثر أسماؤهم كحبّات الرمل على آلاف المجلات، الكتيّبات الصغيرة والمجاميع الكبيرة، وعلى الندوات، القراءات الشعرية والمهرجانات.

حمّى التقييم لهذا الشاعر وهذه القصيدة تتردّد أصداؤها في ردهات ومجلات النقد الأكاديمي، منح جامعية، وجوائز للشعر محمّلة بمئات الآلاف من الدولارات، كلّ هذا الحماس المصوّت إنما يوحي بازدهار للشعر لا سابق له.

مثل هذا نراه داخل نشاطنا الثقافي العربي، آلاف الشعراء، ونصوص الشعر، وكتب الشعر، حتى النشاط الأكاديمي في تفعيل النظريات النقدية عبر قراءة هذا النص وهذا الشاعر، تبدو حاضرة، وبوضوح.

لكن لم يبدُ الشعر في غزارة حضوره هذا قليل الشأن عند جمهور القراء، والجمهور عامة؟ ولم لا يبذل نقاد الأدب الجدّيون، كما يتساءل أحد النقاد، ويعني بهم غير الأكاديميين، إلا القليل من الانتباه له ولشعرائه؟ وكيف لا يثير حقلٌ أدبي بهذه الغزارة اهتماماً إلا من قِبل قلّة محدودة، من بين الشعراء أنفسهم في أغلب الأحيان؟... أمر لا يحسن الإجابة عنه أحد إلا باجتهاد أن هناك، للأسف، قلة قليلة من النقاد الجدّيين الذين كرسوا طاقتهم النقدية له.

بين يديّ كتاب جديد للأميركي آدم كيرش، تحت عنوان The modern Element (صدر عن دار Norton)، وهو واحد من هؤلاء النقاد الجدّيين الذين يشكلون حلقة وصل فاعلة بين الشعر والجمهور، يكتب في أكثر من مجلة، وتتسم كتابته بالوضوح والعمق، أمران جعلهما معظم النقاد أضداداً! تماما كما فرضوا الضدية على صفتين في الشعر، لا أرى فيهما أي ضدية: أن يكون الشعر طاقة محاكية، موصلة بين اللغة وما وراءها، ومعبّرة، وأن يكون مغلقاً على معناه الداخلي، مبنياً ومشروطاً وفق توترات داخلية لكل قصيدة على حدة.

هذا، مع أن مقالات كيرش جميعها تنمّ عن ميل واضح إلى رؤية الشعر وسيطاً يتطلع إلى خارجه، وطاقة استثنائية في القدرة على التعبير، والاستجواب الجدي للمخيّلة الأخلاقية المسؤولة.

الكتاب مجموعة مقالات نقدية سبق أن نشرها كيرش على امتداد سنوات، قد لا تتجاوز المقالة الواحدة أكثر من خمس صفحات، وقد تمتد إلى عشرين أو أكثر، لكن نَفَس المقالة النقدية الغنائي، وسحر الإحاطة المثرية لعالم الشاعر، ومن ثم عالم الشعر، وهذا الحفر البارع والمُضاء بوضوح لموطن أسرار النص، والسعي من أجل إنجاز ثمرة نقدية جاهزة للقطف من قبل القارئ، كل هذا تمنحه لك بيسر صفحات معدودة، لذا تبدو القراءة حريصة على فن المقالة النقدية هذا، من أجل تنويع قد لا تقع عليه في الدراسة الطويلة، أو الأكاديمية، وتبدو حريصة أيضاً على الاكتفاء بإكمال مقالة أو مقالتين في كل حين، رغبةً في كمال الاستيعاب والاستعادة المتأملة.

لكن أروع ما في الكتاب، هو توجهه الصحي في التعامل مع الشعر، الذي ينطوي على «بصيرة إنسانية»، على حدّ تعبيره، هذه البصيرة التي وجدها «العنصر الحديث» الحاسم، وسمّى الكتاب باسمها، بصيرة هي إرث شعراء مضيئين من أمثال: توماس هاردي، روبرت فروست، ماريان مور، فيليب لاركن، روبرت لَوْيل.

لدينا ما يقابل ذلك من شعراء «البصيرة الإنسانية»، لكن من دون نقاد يشبهون آدم كيرش، للأسف. فنقادنا جميعاً ينافسون شعراء الحداثة الخارجة عن الزمان، على اقتسام اللغة الإيهامية، غير الموصلة، وغير المعنية بتوسيع أفق الكائن.