إن أكثر ما يُحسد عليه الشعر الشعبي هو انتشاره في المجتمع، وتعاطيه من قبل فئات كبيرة ومتنوعة، مقارنة بالأشكال الإبداعية الأخرى، مما حدا ببعض المبدعين في المجالات الأخرى الى محاولة تقليد الشعر الشعبي في جذب أكبر عدد ممكن من الجمهور بشتى الطرق والوسائل، فعلى سبيل المثال قبل سنوات قليلة مضت، أقيم في مدينة جدة أول مهرجان من نوعه للفن التشكيلي، تحت شعار «الفن للجميع»، وشارك في المهرجان 22 فنانا واستمر لمدة ثلاثة أسابيع، الجديد في هذه التظاهرة التشكيلية أن أسعار اللوحات المشاركة تراوحت بين 500-2000 ريال للوحة، علماً بأن هناك لوحات لفنانين سعوديين معروفين مثل عبدالحليم رضوي وطه صبان وضياء عزيز وعبدالله الشيخ وشادية عالم وغيرهم، تتراوح عادة أسعار لوحاتهم بين 10 آلاف و50 ألف ريال للوحة الواحدة.

Ad

والسبب في هذه «التنـزيلات» الهائلة ليس أن «البضاعة» مقلدة ولا مضروبة أو مهربة، لا سمح الله، لكن وراء ذلك هدف جميل ورائع هو إتاحة الفرصة أمام أكبر عدد ممكن من محبي وعشاق هذا الفن، لاقتناء نتاج أسماء معروفة ومشهورة في مجال الفن التشكيلي، والهدف الآخر هو كسر الحاجز بين الفن التشكيلي والغالبية العظمى من المجتمع ليتحقق الدور الفاعل لهذا الفن في حياة الناس.

الهدف من وراء هذا المهرجان إخراج الفن التشكيلي من نخبويته وإدخاله عالم العامة من الناس، ليصبح فنا عاميا على غرار الشعر العامي لدينا!... وإنزاله من برجه العاجي ليسير على قدميه في الأحياء الشعبية والأزقّة، ويجلس خلف طاولة مطعم صغير مزدحم في انتظار صحن الفول المدمس، ثم «يحبس» بكوب شاي دافئ، وقد يختتم ذلك كله بسحب نَفَس أرجيله!

من المآخذ على الفن التشكيلي أنه قد يتعاطى هموم الناس البسطاء، ويتفاعل معهم، ويحمل قضاياهم، لكنه يحاور بها أناساً هم أبعد ما يكونون عن هذه الهموم وفهمها، وأنا أرى أن هذا ليس مأخذا عليه بل إنه أحد أهم مزاياه العظيمة، إذ إننا، نحن الغلابة، بحاجة لمن يحمل صوتنا لمن يعتقدون أنه من أنكر الأصوات!... بحاجة لسفير فوق العادة لأحزاننا الطاعنة في السن، ودموعنا الصامتة، ولهج ارواحنا المتواصل، نحن بحاجة لسفير ينقلنا «للناس اللي فوق» يشرحنا لهم «أو يشرشحنا»، نريد سفيرا يتحدث اللغة الراقية لهذا العالم، سفير أنيق تفتح له الأبواب المغلقة، ويُستضاف في الصالونات الفارهة، وغرف النوم الوثيرة.

أنا أعتقد أننا لسنا بحاجة لمن يشرح همومنا لنا أو يفلسفها، فنحن أعلم بشعابها، لذا أنا ضد أن يُنـزّل الفن التشكيلي من درجة سفير إلى درجة سمكري، وأن يُمرمط في البلاط، وتعلق لوحاته على الجدران المهترئة بجوار انواع الحشرات الزاحفة والطائرة، بحجة أن يصبح في متناول العامة! أنا ضد هذا التوجه وأقولها «بالفم المليان»، بل إنني ألاحظ أن باب هذا الفن الراقي قد ولجه بعض الدخلاء من طبقتنا، أو الذين «كانوا» ينتمون لها، وعندما جرت النعمة في أبدانهم الهزيلة، أول شيء فعلوه هو «الترزّز» في الغاليرهات! لذا كنت -ومازلت- مع رفع أسعار اللوحات، وإذ بي أُفاجأ بهم يخفضونها!!

أكرر، أنا ضد أن يعبّر الفن التشكيلي بالعامية، حتى لايتسابق شعراؤنا العاميون لخوض غماره، ويفاجئك أحدهم بأن يُخرج من جيبه لوحة عامية بدلا من قصيدة مطلعها (البارحة...).

الفن التشكيلي بالنسبة للعامة للفرجة فقط وليس للاقتناء، وعلى رأي الفنان سمير غانم في «المتزوجون»: نفسي أعزم أصحابي... يتفرجوا مش ياكلوا!

بالله عليكم، أنقذوا الفن التشكيلي من البهدلة، مع تقديم بطاقة شكر لنوايا الفنانين التشكيليين الطيبة.