الأدوية المفردة... كتاب علّم العالَم

نشر في 25-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 25-09-2007 | 00:00

في انطلاقتهم الحضارية الأولى، اندفع المسلمون إلى ترجمة أبرز المصنفات العلمية والأدبية التي أنتجتها الحضارات السابقة على الإسلام، وكان التراث اليوناني محط الاهتمام الأكبر من المترجمين الذين عملوا بتوجيهات مركزية، بدءاً من عهد الخليفة العباسي المأمون في مطلع القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، حتى ليقال إن هذا الخليفة كان يزن الكتب المترجمة بالذهب كوسيلة لتقدير أجور المترجمين.

من أهم الكتب اليونانية التي ترجمت إلى العربية وتواتر إنتاج نسخ مخطوطة منها طوال سنوات العصور الوسطى، كتاب «الأدوية المفردة» الذي يعرف حيناً باسم «مادة الطب» وحينا آخر باسم «خواص العقاقير»، وهو من تأليف ديوسقوريدس، وهو طبيب وعالم طبيعي وعشّاب يوناني عاش في القرن الأول الميلادي. وقد ولد في بلدة عين زربة قرب طرسوس جنوب تركيا.

ومع أن علماء المسلمين كانوا على علم بكتابات علماء العقاقير من اليونان، إلا أن كتاب «الأدوية المفردة» ظل أعظم مرجع تقليدي في هذا الميدان، كما بقي اسمه مستخدما حتى القرن 19م، للدلالة على موضوع علم العقاقير في تعليم الطب.

ويبدو أن هناك ترجمتين من اليونانية إلى العربية: إحداهما مشرقية والأخرى أندلسية. وحسبما جاء في كتاب طبقات الأطباء والحكماء، فإن هذا الكتاب ترجم في بغداد أيام الخليفة المتوكل العباسي، وكان المترجم له اصطفان بن بسيل من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، ولم يستوف المترجم الأسماء العربية كلها، لعدم معرفته بما يقابل اليونانية فيها، وفي وقت لاحق اطلع حنين بن اسحق على تلك الترجمة وأصلحها، ولم يترجم إلى العربية سوى جزء من أسماء الأدوية، في حين ظلت أسماء باقي العقاقير على صورتها اليونانية بحروف عربية.

أما الترجمة الأندلسية فتعود إلى حادثة إرسال الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع لنسخة فخمة من الكتاب إلى الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر في قرطبة (300 – 350 هـ / 912 – 961م)، وكان ورود هذه النسخة حافزا على إنجاز ترجمة عربية كاملة لكتاب الأدوية المفردة، حيث أمكن بواسطة التصاوير الواردة بهذا المخطوط ترجمة المزيد من أسماء العقاقير التي تضمنها الكتاب إلى العربية.

وكان من المنطقي أن تتأثر المخطوطات العربية الأولى لترجمة كتاب ديوسقوريدس بالنمط الذي كان سائدا في تصاوير المخطوطات البيزنطية، إذ كان المزوقون البيزنطيون قد أضافوا في بعض الأحيان إلى الرسوم الاعتيادية للأعشاب الطبية التي حوتها مخطوطات ديوسقوريدس صورا بشرية، وذلك بهدف الإشارة إلى مرض يكون لذلك النبات مفعول خاص ضده أو لتبيان كيفية جمعه بأحسن وسيلة وتحضير الدواء منه. وقد ظهرت هذه الصور التوضيحية لأول مرة في نسخة عربية من كتاب «الأدوية المفردة» المنسوخ سنة 476 هـ / 1083م والمعتمد على نسخة مؤرخة بسنة 380 هـ / 990م وهي ضمن مقتنيات مكتبة جامعة في ليدن بهولندا.

وفي هذه المخطوطات العربية المبكرة كان الطابع البيزنطي غالبا عليها، وكانت الرسوم البشرية لاتزال ركيكة وبدائية، بالإضافة إلى صغر حجمها بالقياس إلى النباتات المصورة معها.

لكن مخطوط «الأدوية المفردة» الذي تحتفظ به مكتبة أيا صوفيا في إسطنبول وهو مؤرخ في سنة 621 هـ (1224م) أخذت منمنماته تفصح تدريجيا عن طابع عربي أكثر نضجا وتطورا، ففيما نرى بعض التصاوير وثيقة الصلة بالأصول البيزنطية، نجد في البعض الآخر منها مناظر واقعية حقيقية حسنة التوازن، وينطبق ذلك بصفة خاصة على الكثير من الرسوم التي توضح كيفية تحضير أشربة طبية، وبالإضافة إلى ما سبق فهناك مناظر مثل معالجة المرضى واجتماع الأطباء من المحتمل أنها اعتمدت على أصول بيزنطية، وإن تمتعت هنا بقدر كبير من الواقعية والحيوية.

والمجموعة الثالثة من تصاوير نسخة أيا صوفيا عربية خالصة في مفاهيمها، من أمثال المناظر البرية التي ينمو فيها نبات معين، وهو ما نرى مثالا جيدا له في تلك الصورة التي تجسد شجرة الاتراجوالس في وسط منظر صيد، به غزالة تعدو بأقصى سرعة إلى يسار الصورة فرارا من الصياد، وهناك أيضا مناظر ذات طابع اجتماعي حضري مثل وزن دواء في صيدلية تقع في سوق وهي مجهزة بالأدوية تجهيزا جيدا، حيث رصت الأواني في أرفف متوازية ومنتظمة، ويرجح (ريتشارد ايتنجهاوزن) أن مثل هذه الصور الأخيرة قد اقتبست من مخطوطات عربية أخرى مزوقة متنوعة مثل مقامات الحريري، وذلك نظرا للصبغة التصويرية الجيدة التي ظهرت بها.

ومن المؤسف أن جمال هذا المخطوط ودقة رسومه البديعة كانا من بين دوافع الاهتمام الأوروبي الذي ترجم في صورة عمل إجرامي، عندما تم قبل سنة 1910م اقتطاع وانتزاع حوالي إحدى وثلاثين ورقة من المخطوط الذي تحتفظ به مكتبة أيا صوفيا، وبيعت لمجامع خاصة ومتاحف عامة في مختلف أنحاء العالم.

ومن الصور المنتزعة من هذا المخطوط واحدة في متحف المتروبوليتان للفن في نيويورك، وهي تمثل صيدلية في الطابق الأسفل منها نرى صيدلانيا يحضر دواء معمولاً بالعسل يراقبه شاب جالس. وقد استعمل القسم الأكبر من القاعة لخزن جرار كبيرة، يجري فحص إحداها من قبل أحد الحاضرين، أما الشخص الذي في جهة اليسار فيدلل وضعه التأملي على أنه هو الطبيب والعقل المدبر للصيدلية كلها، وعلى الرغم من الملاحظة الدقيقة لتفاصيل السلوك البشري والاهتمام الواضح بتوزيع الأشكال، فإن الصورة تخلو من التجسيم لشخوصها، والواقع أن الصورة وتنظيم الإطار المعماري فيها وحتى صفة الأشخاص المرسومة. كل ذلك يذكرنا بتوزيع الأشخاص في مشاهد خيال الظل، والنموذج الذي استمدت منه صورة الصيدلية مأخوذ على الأرجح من صورة حانة كانت ترد في بعض تصاوير لمخطوطات من مقامات الحريري.

وفي متحف «فرير غاليري» للفنون في واشنطن ورقتان انتزعتا من مخطوط أيا صوفيا. في واحدة منها يقوم طبيب بعلاج رجل لدغه ثعبان وقد جلس الطبيب على مقعد له مسند وأمامه كتاب مفتوح، وهو يشير بضمادة في يده إلى الملدوغ الذي يجلس أمامه على مقعد صغير وقد أمسك بقدمه المصابة.

وفى الصورة الثانية وصف لكيفية إعداد دواء يدخل العسل والمر والزعفران في تركيبته، وذلك من أجل علاج عدة أمراض كالإسهال وصداع الرأس وآلام المعدة ووجع الأنامل والشقاق. وبوسط الصورة رسمت شجرة النبات الطبي، وإلى جانبها الطبيب وهو يصف الدواء لمصاب قصد علاجه، بينما نجد على الطرف الآخر من الشجرة رجلا يقوم بإعداد الدواء في قِدر يجري تسخينه. وتعد مخطوطة الأدوية المفردة لديوسقوريدس المؤرخة في عام 621 هـ (1224م) فريدة من نوعها بين المخطوطات العلمية، وسبب ذلك يعود إلى جمالها الزخرفي وإلى دقة ملاحظة الفنان وواقعيته في تمثيل المناظر، وهو ما دفع بالعلماء إلى ترجيح نسخها في بغداد على يد الخطاط (عبد الله بن الفضل)، في حين ظل اسم الفنان الذي قام بتزويقها بالتصاوير مجهولاً. 

back to top