لم يشهد العالم العربي حراكاً على المستويات المختلفة من أجل تطبيق بعض استحقاقات الديموقراطية في العالم العربي، مثلما شهد بعد غزو العراق 2003. وكأن غزو العراق قد فتح شهية الفعاليات السياسية العربية، لطرح ضرورة تحقيق بعض استحقاقات الديموقراطية على الأقل وليس كلها. وهكذا كان غزو العراق بمنزلة موجات كهربائية صادمة للقلوب السياسية العربية، التي كادت أن تتوقف عن الخفقان السياسي.

Ad

غزو العراق يكسر الجمود

فوجدنا أن الانتخابات التي كانت مؤجلة مرات عدة قد أُجريت، وأن الكثير من الأصوات الليبرالية قد خرجت، وأن آليات الديموقراطية التي كانت معطوبة قد أُصلحت. وتم تفعيل مجالس الشورى. وتمت انتخابات بلدية لأول مرة في تاريخ بعض البلدان. وقامت جولات من مؤتمرات الحوار الوطني من أجل التدرب على آليات الديموقراطية المستقبلية. ونالت المرأة حقوقاً كثيرة ومتتابعة في بلدان عربية مختلفة، مع ملاحظة أن الكثير مما يتوجب تحقيقه للمرأة لم يتحقق بعد، فالطريق طويل، والعقبات الاجتماعية والدينية والسياسية كثيرة، ولكن بالمقابل لم تكف الدكتاتوريات العربية عن اعتقال المطالبين بالإصلاح السياسي، والتنكيل بهم. وطالت تقارير منظمات حقوق الإنسان المؤنّبة الكثير من الدول العربية. ولكن من يقرأ صفحة الديموقراطية في العالم العربي قبل غزو العراق وبعده، سوف يشاهد من دون عناء، أن استحقاقات الديموقراطية في العالم العربي تتحقق شيئاً فشيئاً ولكن ببطء شديد، وهذا دليل صحة برأيي، وليس دليل اعتلال. فالتقدم الديموقراطي البطيء، شأنه شأن الإنبات البطيء، وهو أفضل بكثير من السلق الديموقراطي، خصوصاً بالنسبة لشعوب العالم الثالث والعالم العربي على وجه التحديد، الذي تعتبر الديموقراطية بالنسبة له بمنزلة التضّرس الناتج عن أكل الحصرم. فهو يريدها ولا يريدها، وهو يعشقها ويخافها في الوقت نفسه.

صراع مرير وجني الحنظل

وهذا الحراك السياسي، صاحبه حراك إعلامي كبير، لم تشهد له المنطقة العربية مثيلاً من قبل، وذلك بظهور وسائل إعلامية فضائية وورقية وإلكترونية عدة، وانتشار الفكر الليبرالي العربي انتشاراً لم يسبق له مثيل، خصوصاً في الصحافة الإلكترونية على الإنترنت. كذلك انتشر الفكر الأصولي الديني انتشاراً مماثلاً، بل تمتع بغض نظر الرقابة الحكومية عنه، مهما قال، ومهما نشر، ذلك أن معظم الأنظمة العربية ترى في الفكر الأصولي القاعدة الخفيّة التي يقوم عليها الحكم، والمتراس الذي يقف خلفه الحكم ضد سهام الليبرالية وشعاراتها في الحداثة والعولمة والعَلْمانية.

ويدور في العالم العربي اليوم صراع مرير بين الليبرالية والأصولية، سوف يتمخّض عن نتائج كثيرة منها:

-1 أن فكرة الوحدة العربية والعالم العربي الموحد قد سقطت إلى زمن قد يطول كثيراً، قبل استرجاع فكرة القومية العربية والوحدة العربية. فالشعور القطري في السنوات الأخيرة قد ازداد زيادة كبيرة، ولاسيما بعد ارتفاع أسعار البترول بالنسبة للدول العربية الغنية. كما أن محاولة استعمار بعض الدول العربية لدول عربية أخرى أصغر منها (حالة سورية ولبنان، والعراق والكويت) قد نمّى الشعور القطري وأمات الشعور القومي، الذي ثبت أنه مجرد شعارات، لسيطرة الدول العربية القوية على الدول العربية الضعيفة. وجاء سقوط الناصرية، وسقوط حزب البعث في العراق، وضعف حزب البعث في سورية، وكلها كانت تنادي بالوحدة القومية العربية، ضربة أخرى على رأس الحركة القومية العربية، وفرصة كبيرة لتنامي الحسّ القطري والتمسك بالقطرية، لاسيما بعد محاولة العراق غزو الكويت في 1990 وتهديد معظم دول الخليج بهذا الغزو الفاشل المشين، الذي تصدى له الغرب أكثر مما تصدى له العرب. وبذا، سقطت آخر أوراق التوت عن العورة القومية العربية.

-2 ستكون الفرصة سانحة أمام الأقطار العربية للالتحاق والانضمام إلى العولمة، أكثر منها إلى دولة الوحدة القومية العربية. ورغم الأبحاث الكثيرة والمؤتمرات القومية العربية المتعددة، التي تقام هنا وهناك، ووجود «مركز دراسات الوحدة العربية» في لبنان (وأصله عراقي، وبتمويل سابق من عراق صدام حسين، ودعم مباشر من سعدون حمادي رئيس البرلمان العراقي السابق، وهو بمنزلة الخزانة الفكرية لإيديولوجية حزب البعث)، فإن فكرة الوحدة القومية العربية على أرض الواقع كادت أن تختفي مع اختفاء الحكام العرب المطالبين بتحقيقها. فمعمر القذافي الذي كان آخر الباقين المطالبين بالوحدة القومية العربية، قد كفر بهذه الوحدة، وسلخ جلدها في ليبيا، واتجه إلى الوحدة الأفريقية، علّه يلقى صدى وتوفيقاً أكبر في القارة السوداء.

-3 أدى الصراع السياسي الديني بين السنّة والشيعة، وظهور قوة إقليمية شيعية في المنطقة كإيران، وحزب شيعي قوي كـ«حزب الله» في لبنان، وظهور الأحزاب الشيعية القوية في العراق (تمثل 60% من عدد سكان العراق) التي تحكم العراق بصفة فعلية، وبمساعدة إيران، إلى بروز شعارات الدولة الدينية، أكثر من بروز شعارات الدولة القومية. بل إن بلداً كسورية العَلْمانية والمحكومة- ولو صوريّاً- بحزب قومي عَلْماني قُح، تحالفت تحالفاً استراتيجياً مع دولة دينية شيعية كإيران، بعد أن كانت متحالفة مع قوة قومية وعلمانية كمصر في عهد عبدالناصر. وهذا ما يعني أن القرن الحادي والعشرين- على عكس القرن العشرين- سوف يشهد تحالفات دينية وقوى دينية جديدة، تنشأ في المنطقة كما كانت عليه الحال في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تلك الفترة التي تعتبر الفترة الذهبية لنشوء الفكر القومي الوحدوي العربي. ولولا بقاء المشكلة الفلسطينية من دون حل إلى الآن ومنذ ستين عاماً، والتوسع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، لانتفت فكرة الوحدة القومية العربية تماماً. فالرابط الوحيد القومي الوحدوي الموجود الآن على أرض الواقع العربي- وهو رابط رفيع وهزيل- هو الشعور القومي العربي الموحد تجاه إسرائيل، وتجاه المشكلة الفلسطينية. مع ملاحظة أن هذا الرابط قد بدأ يتراخى مع وجود فئات كثيرة في العالم العربي تنادي بالسلام مع إسرائيل، وأخذ ما هو متوافر ومعروض الآن، حتى لا يصبح ما هو متوافر ومعروض الآن عزيزاً في المستقبل القريب، كما شهدنا من خلال تاريخ القضية الفلسطينية. فالزمن ضد المصلحة الفلسطينية، على عكس ما كان يُعتقد. وكلما مر زمن، خسرت القضية الفلسطينية من رصيدها، حتى لم يصبح لها رصيد الآن، في ظل ضعف العرب، وتشتت الشعب الفلسطيني بفضل الخلاف الفلسطيني- الفلسطيني القائم الآن بين «فتح» و«حماس».

خيبة الأمل الأميركي

خيبة أمل كبيرة أصيبت بها أميركا شعباً ودولة من التجربة العسكرية المريرة في العراق نتيجة لعوامل عدة. فقد كان الأمل الأميركي في العراق كبيراً ووردياً زاهياً، لم يحسب حساباً للشوك الكثير والمطبات المختلفة التي كانت في طريقه. فقد كانت أميركا تأمل في أن يتحول العراق إلى منارة ديموقراطية، يحتذي بها العالم العربي، كما قال جون هيوز مساعد وزير الخارجية السابق في إدارة الرئيس ريغان. وقد عبَّر عن ذلك الرئيس بوش في خطاب التنصيب لولايته الثانية عندما قال: «هناك قوة واحدة فقط في التاريخ قادرة على كسر حلقة الكراهية والغضب، هي قوة الحرية الإنسانية». وقد تعهد في خطابه بأن تدعم الولايات المتحدة «نمو الحركات والمؤسسات الديموقراطية في كل دولة وثقافة، بهدف إنهاء الاستبداد في العالم». وهذا هو الحلم الأميركي الدائم، بأن تصبح أميركا «محررة الشعوب».

ولكن حساب البيدر لم يتطابق مع حساب الحقل. فالنيات الحسنة لا تُدخلنا الجنة. وطريق الجحيم مرصوف بالنيات الحسنة، كما يقول المثل الانكليزي. وقد كان العراق بالنسبة إلى أميركا هو الجحيم القائم الآن، والذي كان مرصوفاً بالنيات الأميركية الحسنة. وبذا، تأجل الاستحقاق الديموقراطي في العالم العربي إلى أجل غير مسمى، ربما بانتظار صدام حسين آخر، وبانتظار رئيس آخر كجورج بوش وتوني بلير، الذي قال في بدء الحملة على العراق: «إننا نحارب من أجل الحقوق الثابتة للبشرية، ولكي نكون أحراراً. إنها معركة جديرة بالقتال». ولكن سيف القوى الدينية الأصولية في العراق وفي جوار العراق، كان أقوى من أساطيل هذين الرئيسين، فانقلب العسل إلى سُمّ، وانقلب العرس إلى عزاء، والأفراح إلى أتراح. فاللعبة الديموقراطية التي جاءت بها أميركا إلى العراق كانت مكلفة جداً، حيث صُرف من أجلها مليارات الدولارات وقُتل مئات الآلاف. ولكن ما الفائدة إذا كانت الأرض (سبخة) ومالحة، ولا تصلح لزراعة نبتة الديموقراطية؟ فعلينا إصلاح الأرض أولاً.

* كاتب أردني