ما شاهدته خارج الإطار، فإن الثلاثة المفرج عنهم من سجن غوانتانامو كان قد تم وصفهم بـ«مقاتلين معادين»، وأنهم ينتمون إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة، أما الذين دافعوا عنهم وسيستمرون في الدفاع عن رفاقهم، فهم ممن تصفهم الجماعات الإسلامية المتطرفة بالكفرة الملاحدة!ليس من المفيد النظر إلى حالة غوانتانامو على أنها مجرد انتهاك صارخ لحقوق الإنسان فحسب، كما أنه ليس من المفيد أيضاً النظر إلى ذلك الانتهاك في سياق المعاداة السياسية للولايات المتحدة، بل إن من أكثر الدروس المستفادة هو تلك الهبَّة الدولية من منظمات وأفراد ونشطاء ومحامين داخل أميركا وخارجها الذين يمكن إطلاق صفة العلمانية عليهم وقد شمروا عن سواعدهم ووصلوا الليل بالنهار للدفاع عن معتقلين يوصفون بأنهم «إسلاميون متطرفون». ولم تتردد تلك المجاميع أو تتوقف عند هوية أولئك المعتقلين لكي تجد مبرراً لها لتخفف من جهودها في كشف السلوك المشين الذي قامت به الإدارة الأميركية بهذا الصدد. ومما يؤسف له أن إسلاميينا أو ليبراليينا -من دون تعميم- لم يستوعبوا الحدث ولم يفهموا ما يجري وظلوا متمرسين وراء طروحاتهم التقليدية، كلٌ يغني على ليلاه.
وقد لفت نظري أثناء انعقاد أحد الاجتماعات الدولية التي نظمتها منظمة «العفو الدولية» ومنظمة «ريبريف» في لندن، وأثناء إحدى الجلسات التي تحدث فيها ثلاثة من معتقلي غوانتانامو المفرج عنهم وكان يجلس معهم على المنصة أيضا ثلاثة من المحامين والناشطين الذين عملوا للإفراج عنهم، أن المشهد على تلك المنصة كان يعبر عن اختزال رمزي رائع لما يفترض أن تكون عليه رؤيتنا للأمور، إن نحن أردنا أن نعيش في عالم أقل قسوة وأكثر احتراماً للإنسان.
فقد كان على منصة المتحدثين صورتان؛ إحداهما داخل الإطار والأخرى خارج الإطار، أما الصورة الواضحة داخل الإطار، فهي صورة ثلاثة أشخاص انتُهكت حقوقهم الأساسية ونشط للدفاع عنهم جهات ومنظمات، فكان أن تم الإفراج عنهم، وهم في هذه الحالة جاؤوا ليشرحوا معاناتهم ويشكروا من ساندهم، هذه الصورة عادية، وهي تحدث على الدوام ما دامت هناك دول تنتهك حقوق الإنسان، أما ما شاهدته خارج الإطار فإن الثلاثة المفرج عنهم كان قد تم وصفهم «بمقاتلين معادين»، وأنهم ينتمون إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة، أما الذين دافعوا عنهم وسيستمرون في الدفاع عن رفاقهم بدليل أنهم نظموا ذلك الاجتماع للضغط على الولايات المتحدة، فهم ممن تصفهم الجماعات الإسلامية المتطرفة بالكفرة الملاحدة!
فإن لم تتطابق الصورتان داخل الإطار مع خارج الإطار، فإننا سنستمر في مواجهة الحالة الذهنية للتطرف كواحد من أسباب القلق والتوتر في العالم، وقد سألت لاحقاً أحد المفرج عنهم إن كان قد أدرك هذه العلاقة... فأجابني بالإيجاب، وأكد أنه لولا جهودهم لما كنت هنا بينكم، وأنه بصدد القيام بجولة محاضرات لبث هذه الأفكار التي تؤمن بالتعددية، وأن عدو الإنسان هو التطرف سواء جاء من جماعات أو دول. ولقد أدرك هذه العلاقة الإنسان الرائع خالد العودة الذي قاد العمل المناهض لغوانتانامو محلياً بعيداً عن الاختطاف والتجيير السياسي، واستطاع الارتباط بتلك الحركة الدولية ارتباطاً سلساً حتى أصبحت الكويت محطة أساسية للجهد الدولي... نسأل الله أن تتكلل تلك الجهود بالافراج عن فوزي ورفاقه جميعاً وإغلاق هذا المعتقل البغيض الذي توقفت حتى حكومة الولايات المتحدة في الدفاع عنه وعن مبررات الإبقاء عليه من شدة الإحراج الذي تتعرض له.
فقد جاءت «بدعة» غوانتانامو في زمن كان من المفترض أن يشهد تقدماً في الانفتاح السياسي واحترام الإنسان. وكان أن خيبت الولايات المتحد آمال البشر في وضع الأسس السياسية والموضوعية لعالم يبني لعلاقات أكثر رحمة وعدالة بين البشر. فالولايات المتحدة، تلك الدولة العظمى بمبادئها الدستورية المتينة، وبقدراتها الاقتصادية الهائلة، وتعدد جوانب الخير فيها، كنا نظن أنها ستقودنا الى عالم أكثر توازناً، يرسخ قيم العدالة والمساواة والتعددية ويقلم أظافر الفقر. ولم يكن ذلك الأمل قد جاء من فراغ، حيث كانت التحولات التاريخية وخروج الاتحاد السوفييتي من سباق القوة، وبدأت المؤشرات بتحرير الكويت، حيث تلاقى الحق مع القوة بمصادفة تاريخية نادرة، ثم جاءت عملية «إراحة الشمال» وعملية «إراحة الجنوب» في العراق، فالبوسنة، فعملية «إعادة الامل» في الصومال، فكوسوفو، وهكذا... مؤشرات ذات دلالة أبرزت «التدخل الإنساني في الأدبيات الدولية. ألا يحق لنا أن نقلق والحال كهذه على مستقبل العالم عندما تستطيع مجموعة من الإرهابيين في 11 سبتمبر 2001، أن تجعل تلك المؤشرات تتحول إلى عكس الاتجاه، وتتحول إمكانات بهذه الضخامة إلى وحش كاسر يجرف في طريقه الأخضر واليابس تحت شعار «الحرب على الإرهاب»، فضاعت البوصلة، وزاد الارهاب بدلاً من أن يقل، وبدلاً من غوانتانامو أصبح لدينا «أبو غريب» والسجون السرية وانتفخت أوداج الدكتاتوريات القمعية في العالم؟ إن قيادة أميركية أكثر حكمة وأكثر التزاماً بدستورها وبقيم العدالة والمساواة في العالم كان بإمكانها أن تجعل العالم أكثر رحابة وأكثر أمناً لها ولنا.
وهكذا لم يكن معتقل غوانتانامو مجرد سجن فحسب، بل كان رمزاً للصلف ولشهوة القوة وللصورة العادية داخل الإطار.
أغلقوا غوانتانامو...