Ad

حلت الحركة الصهيونية محل الفلسطينيين، وانتزعت منهم دورهم في اجتراح كيانية وطنية على أرضهم واستحوذت عليه، فكان أن جعلت من اغتصابها فلسطين فعل تحرر وطنياً، ويبدو أن الوطنية الفلسطينية لم تفلح حتى اليوم في تدارك قصورها الأصلي ذاك.

لا يلوح الظرف ملائماً كي تُبعث الوطنية الفلسطينية دولةً... لا يعود ذلك فقط إلى ما هو معلوم من تعذرات أو من عقبات، يتعلق بعضها بميزان القوة وانخرامه السافر لمصلحة الدولة العبرية، وما يترتب على ذلك من انفراد هذه الأخيرة بمآل مسار التسوية، ولا فقط إلى إعضال ذاتي تكابده الوطنية الفلسطينية، جرّاء انشطارها، انشطاراً عميقاً مبرماً أتى على كل رابط من إجماع، قطبيْن سياسيين وسلطتيْن وأرضين.

بل إن أسباب التعذر والامتناع ربما عادت إلى ما هو أعمق من ذلك وأبعد غوراً مما قد لا تعدو الحيثيات المذكورة أعلاه أن تكون من تجلياته ومن عوارضه، ونعني بذلك أن الفكرة الوطنية الفلسطينية المدعوة إلى الانبعاث دولة، على ما هو الهدف المعلن لمؤتمر أنابوليس الأخير، إنما تُناقض وتعاند، في طورها الراهن، منحى صلباً على صعيد إقليمها المباشر، وربما على صعيدٍ أوسع، قد ينفي عنها احتمالات الإنجاز، هو ذلك المتمثل في أن ديناميكية تفكك الكيانات هي التي تبدو غالبة جارفة حالياً، تتربص بما كان من تلك الكيانات قائماً، فما بالك بما كان منها منشوداً، شأن ذلك الفلسطيني.

فإذا كان زوال الاستعمار التقليدي قد أفضى إلى ظهور «الأوطان»، وفق الترسيمات الحدودية التي صاغها الاستعمار إياه في الغالب، وإذا كانت حقبة الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي، إذ تزامنت مع استقلال بلدان ما كان يعرف بـ«العالم الثالث»، وشكّلت بيئته الدولية والاستراتيجية قد أدت إلى تعميم أنموذج «الدولة-الأمة»، وإن اصطناعاً وافتعالا، أقله كأنموذج قانوني استند إليه معمار العالم، واستوى نصابا مدّ «الأوطان الوليدة» بأسباب البقاء من خارجها إذا ما أعوزتها مقومات الوجود الذاتي (وكثيرا ما أعوزتها)، فإن نهاية الحرب الباردة قد نالت من ذلك النصاب على نحو بليغ، على ما تدل أمثلة كثيرة في العالم وفي شرقنا الأوسط، حتى أنه ليمكن القول إن مصطلح «الدول الفاشلة»، إن سلمنا بصحته، إنما ينطبق على تلك الحالات تحديداً، حيث أخفقت دول كثيرة في الارتقاء بوجودها من صبغته «القانونية» (وفق القانون الدولي) إلى صبغته الفعلية، وفي تحويل ذلك الوجود من كيانية محض اعتبارية إلى كيانية تاريخية.

تجلى ذلك «التطور» من خلال تضافر عاملين؛ خارجي تمثل في العودة عن مبدأ السيادة، أقنوما يحكم علاقات الدول في ما بينها، بإقرار «الحق في التدخل» (ذلك الذي وجد في العراق بعض أكثر تجلياته دراماتيكية، في الحرب الأخيرة وقبلها)، وداخلي تمثل في تفكك متماد أصاب عدداً من الكيانات القائمة واستفحل أو هو مدعو إلى الاستفحال، ولنا في هذه الصدد أيضا أمثلة شرق أوسطية معلومة.

مناخ كهذا، لا يبدو، من حيث المبدأ وكخلفية إقليمية ودولية، فاعلاً في مصلحة مشروع الدولة الفلسطينية، خصوصا أن المشروع ذاك لا يسنده ميزان قوة يُعتدّ به، فلا يكاد يعوّل إلا على أمرين غير مرجّحيْن البتة: قبول إسرائيلي به وإرادة أميركية نشيطة في إنجازه، أي أن وسائل إتاحته يتحكم بها بالكامل خصومه الطبيعيون، أو الوجوديون على الأصح، أو غير المتعاطفين معه في أفضل الأحوال. وتلك مفارقة تبلغ مبلغ الخُلف.

أضف إلى ذلك أن الوطنية الفلسطينية تنطوي على ضعف أصلي، هو من السمات الفارقة لمجالها الإقليمي، المشرقي الشامي، ولكنه تبدى في ما يخصها على النحو الأفدح، فالمجال ذاك مر بمسار تاريخي لم يساعده على اجتراح وطنياته الحديثة، بلغه الاستعمار متأخراً نسبياً، بعد انهيار الخلافة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وجاءه «انتداباً» بقرار دولي، وجلا عنه «مبكّرا»، مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، دون أن يفعل فعله في تحوير بناه الداخلية بعمق، بل أبقى عليها وأعاد تنشيطها (في بُعدها الطائفي)، فلم تنشأ حركات وطنية حديثة، اجترحت وطنيتها الكيانية من مقارعة الاستعمار بخطاب وبوسائل حديثة، أسوة بما حصل في أماكن أخرى. نتج عن ذلك، على صعيد المشرق الشامي، ما بعد العثماني، عموماً، أن ظهر الكيان والدولة إلى الوجود قبل أن يظهر الوطن، فاعتبرا (الكيان والدولة) غير شرعيين، يتنازعمها الولاء إلى ما دونها (الطائفة والإثنية) أو إلى ما يفيض عنهما (الأمة العربية إبان الحقبة القومية أو تلك الإسلامية راهناً).

أما في الحالة الفلسطينية، فقد تبدى القصور ذاك على نحو أكثر مأساوية، إذ حلت الحركة الصهيونية محل الفلسطينيين وانتزعت منهم دورهم في اجتراح كيانية وطنية على أرضهم واستحوذت عليه، فكان أن جعلت من اغتصابها فلسطين فعل تحرر وطنياً، ومن إعلان الدولة العبرية استقلالاً عن الاستعمار.

ويبدو أن الوطنية الفلسطينية لم تفلح حتى اليوم في تدارك قصورها الأصلي ذاك، لماذا؟ ذلك ما يتطلب تناولاً على حدة.

* كاتب تونسي