الاستشراق والسجال الدائر حوله

نشر في 04-04-2008
آخر تحديث 04-04-2008 | 00:00
 محمد سليمان

يحدثنا الكاتب الإنكليزي «روديارد كبلنغ» عن الاستشراق في الهند والصين واليابان منطلقا من أن التنوير بل الهيمنة أيضاً لم يتخذا مساراً واحداً في كل الأحوال أي من الغرب إلى الشرق، وأن المسار العكسي من الشرق إلى الغرب كان له حضوره وفاعليته.

قبل أكثر من قرن كان الشاعر والكاتب الإنكليزي «روديارد كبلنغ» مغرما بسك عبارات قادرة على الانتشار والشيوع والتحول أحيانا إلى شعارات أو رايات تجذب المؤيدين والمعارضين، ومن عبارات كبلنغ الشهيرة «الشعر يلد الشعر» التي شغلت الشعراء والنقاد، وتعني أن الشاعر لا يأتي من فراغ، إنما من الماضي مسكونا بشعر أسلافه، ومتكئا على عدد من الشعراء الآباء الذين أفادوه بشعرهم، وأثروا فيه وساهموا في تكوينه وتنشيط موهبته وحثه على الابداع وإضافة الجديد.

وتردنا عبارة كبلنغ إلى تراثنا العربي ونقادنا القدامى الذين كانوا ينصحون الشاعر الناشئ بحفظ مئات القصائد الجيدة لكبار الشعراء، ثم يطالبونه بعد ذلك بنسيان ما حفظ قبل كتابة شعره!! وهو طلب طريف وعبثي، فالذاكرة ليست ورقة أو دفترا يستطيع الإنسان محو ما سجل فيه متى أراد. وأظنهم كانوا يخشون على الشاعر الناشئ من تقليد ومحاكاة أسلافه والاكتفاء باستعارة أصواتهم، ونسوا فاعلية الموهبة ودورها وقدرتها على التمرد والاختلاف والانحراف عن المألوف والسائد وسعيها إلى التميز وإضافة الجديد.

ولكبلنغ الفائز بجائزة نوبل عام 1907 الذي عاصر مرحلة المد الاستعماري وعاش فترة من حياته في الهند أكبر وأهم المستعمرات البريطانية في ذلك الوقت عبارة أخرى أكثر شهرة، وهي «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» أطلقها ليؤكد الاختلاف بين الشرق والغرب واستحالة زواجهما، وبهذه العبارة أصدر «جي جي كلارك» الجزء الأول من كتابه المهم «التنوير الآتي من الشرق» الذي ترجمه شوقي جلال وأصدرته سلسلة عالم المعرفة في الفترة الأخيرة، وتأتي أهمية الكتاب من انشغاله بنقد العقل الإنساني والسعي إلى كشف انحيازاته وتقاعسه ودوره الإيجابي والسلبي تجاه الشرق والغرب معا، بالإضافة إلى انشغال المؤلف بالاستشراق المفهوم -التاريخ- الوظيفة، وبالتالي الرد على إدوارد سعيد وكتابه الشهير «الاستشراق» الصادر عام 1978.

بشكل أساسي يحدثنا المؤلف عن الاستشراق في الهند والصين واليابان منطلقا من أن التنوير بل الهيمنة أيضاً لم يتخذا مساراً واحداً في كل الأحوال أي من الغرب إلى الشرق، وأن المسار العكسي أي من الشرق إلى الغرب كان له حضوره وفاعليته، ويعزز المؤلف هذا الطرح باقتباس يورده لعالم الإلهيات الألماني هندريك كرايمر في معرض الحديث عن غزو الغرب للشرق، يقول فيه «هناك أيضا غزو شرقي للغرب أكثر خفاء وأقل وضوحا للعيان من الغزوالغربي، لكنه مهم في الحقيقة» كما تعزز هذا الطرح أيضا معظم أجزاء الكتاب التي تتحدث عن الهوس بالصين ثم الهند، والولع بالبوذية وافتتان الفلاسفة والشعراء والكتاب والرسامين الغربيين بالشرق وتأثرهم به على مدى ثلاثة قرون، وقد ساعد هذا التأثر الغرب على رؤية ذاته ونقدها ومن ثم تجديد فكره وإبداعه، ويخلص المؤلف إلى القول «لا يمكننا أن نفهم الاستشراق في ضوء سلطة الغرب وحدها على الشرق .. وعلينا أن نضع في الحسبان أن الشرق حقق لنفسه سلطة متزايدة على تراثاته الثقافية الخاصة وذلك نتيجة اللقاء بينه وبين الغرب، وأنه حقق لنفسه أيضا قوة وسلطة على الغرب بتحوله إلى مناهض وناقد لجوانب أساسية للثقافة الغربية».

كان من المنطقي أن يتخذ الكاتب من كتاب إدوارد سعيد الاستشراق محورا أساسيا للجزء الأول من كتابه، قائلا: سألتزم نهجا مختلفا من نواح مهمة، فبينما صور سعيد الاستشراق في ألوان كابية لتكون الصورة أساسا لنقده الأيدولوجي للغرب سأسعى إلى الكشف عن نطاق أوسع من المواقف الكابية والمضيئة لاستعادة نزعة استشراقية أكثر ثراء وأكثر إيجابية، وانطلاقا من هذا النهج يضعنا المؤلف أمام مؤيدي سعيد ومعارضيه داعيا إلى رؤية متزنة لا تهدف لتقديم تاريخ وردي للاستشراق كما لا تسعى في الوقت نفسه إلى اعتبارالاستشراق مجرد ملحق وذيل للاستعمار «أصاب سعيد في دعواه بأنه لا توجد معرفة مبرأة من السياسة لكن ربط الاستشراق بالسلطة الاستعمارية يمثل جزءا واحدا من القصة «ويشير المؤلف إلى المستشرقين الألمان ودورهم المحوري والرائد في ترجمة نصوص الهند القديمة ولم تكن لألمانيا أي مصالح استعمارية في ذلك الوقت في الهند أو الصين، ويتهم سعيد بالنزوع إلى الاختزال وإغفال قدر كبير مما يتصف به الاستشراق من ثراء وتعقد، ويشير إلى انشغال سعيد بشرقه الخاص «العربي الإسلامي» مغفلا الهند والصين واليابان، وهي بلاد استوعبت الأفكار الغربية واستفادت منها حركات الإصلاح والتحديث.

بهذا النقد يضع الكاتب إدوارد سعيد إلى جوار نقاد الاستشراق الذين يخلدون العداء والاستقطاب وإلى جوار كبلنغ وعبارته الشهيرة، كما ينشط في الوقت نفسه السجال الدائر حول إيجابيات الاستشراق وسلبياته.

* كاتب وشاعر مصري

back to top