Ad

رغم تعاظم التأييد العالمي للحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني فإنه لايزال مقيداً بسبب الانطباع العام السائد في صفوف الرأي العام العالمي حول الاستبداد والفساد الفلسطيني، وحول دور ومكانة العنف في الثقافة العربية الإسلامية عموماً.

إذا استعرضنا مجمل النضال الفلسطيني منذ بداية المحنة فسوف نفاجأ بأن أفضل النتائج لم تتحقق من النضال العسكري إنما من النضال السياسي، هذه الملاحظة تشكل ما يمكن تسميته بالقانون العام للنضال الفلسطيني.

وبكل وضوح وصراحة لم يتمكن الفلسطينيون أبداً ولأسباب كثيرة بعضها معروف بداهة وبعضها يحتاج إلى مزيد من الدرس والفهم من كسب أي معركة عسكرية كبيرة، وثمة استثناء واحد أو أكثر مثل معركة الكرامة، ولكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

وبصراحة أكبر جلب العمل العسكري عدة كوارث على الشعب الفلسطيني،

أولى هذه الكوارث أن ضحايا الصراع العسكري من الجانب الفلسطيني هم عدة أضعاف كثيرة للضحايا من الجانب الإسرائيلي.

ومن ناحية ثانية فقد عطّل الصراع العسكري تحقيق إنجازات حضارية كبيرة كان يمكن تحقيقها في الضفة والقطاع وبين صفوف الشعب الفلسطيني عموماً، وبينما كانت البنية الأساسية للضفة والقطاع تتطور بسرعة في مراحل الهدوء النسبي كانت تخضع لعملية تدمير منظمة ووحشية في مراحل التصعيد العسكري.

ومن ناحية ثالثة فإن النضال العسكري أجبر الحركة الوطنية على البقاء خارج بلادها وشعبها لفترة طويلة للغاية وعقد العلاقات الفلسطينية بالشعوب العربية الأخرى تعقيداً كبيراً.

ومن ناحية رابعة فالنضال العسكري كان وراء النزوع الفصائلي في الحركة الوطنية الفلسطينية بالارتباط مع تتبع النضال الفلسطيني لعدد من النظم العربية.

ومع ذلك كله فليس من الحكمة البكاء على اللبن المسكوب، كما أنه ليس من الصحيح أن النضال العسكري كان سلباً محضاً، فمقابل السلبيات التي جلبها حقق النضال العسكري إيجابيات كبيرة جداً.

أولاها هي فرض القضية الفلسطينية على المستويين العربي والعالمي، ومن دون النضال العسكري لم يكن من الممكن أن يهتم العالم بمأساة الشعب الفلسطيني ولا أن يعترف بتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية لهذا الشعب ويمنحها الاعتراف القانوني الدولي.

ومن ناحية ثانية فالنضال العسكري صهر وجدان الشعب الفلسطيني في تجربة نضالية كبيرة بغض النظر عن نتائجها المرحلية، وشكل النضال العسكري في الحقيقة القابلة التي ولدت الهوية الوطنية الفلسطينية ومن دونها كان يمكن أن يستمر المجتمع الفلسطيني مجرد تشكيلة من العشائر التابعة أو القابلة للخضوع لهذا النظام العربي أو ذاك.

وكان من الممكن نظرياً أن تمثل عملية بناء السلطة الوطنية تعميقاً لعملية بناء الهوية الوطنية، ورغم أن ذلك لم يتم بالصورة السليمة فقد مثل نشأة السلطة الوطنية الفلسطينية بعد أوسلو إنجازاً ثورياً ليس بالمعنى الرمزي فحسب بل بالمعنى الأدائي والعملي المباشر أيضاً.

على المستوى الرمزي تحقّقت دفعة قوية للغاية لعملية بناء الأمة، وكان الشعب الفلسطيني قد حرم تاريخياً من أحد أهم آليات بناء الأمة وهو الدولة المستقلة بتشكيلها المؤسسي، ولذلك مثلاً تشكل السلطة الوطنية بالنسبة للأغلبية الساحقة من الفلسطينيين إنجازاً كبيراً جداً وبغض النظر عن مدى حكمة إدارة هذه السلطة.

ومن الناحية الأدائية قامت السلطة الوطنية بدفع التطور دفعات سريعة ومؤثرة إلى الأمام، وشعر الفلسطينيون بأن ثمة «دولة» تتابع شؤونهم لأول مرة في تاريخهم خصوصاً أن سلطة الاحتلال الإسرائيلي وعلى عكس حالة جنوب أفريقيا مثلاً عاملت الضفة والقطاع بإهمال واستغلال بشع.

السلطة الوطنية وبناء الأمة

لقد وقع هذا التحسن بصورة فورية تقريباً أي في ما بين البناء الفعلي لهذه السلطة عام 1995 وبداية الحرب الإسرائيلية الشاملة ضدها بذريعة الانتفاضة عام 2000، ووقع شل هذه السلطة بصورة خاصة مع إعادة احتلال الضفة والقطاع في نهاية فبراير 2002 حتى بداية عام 2006 تقريباً، وإذا كان العمر الحقيقي للسلطة الوطنية يقل عن خمس سنوات حتى بداية الانتفاضة يمكننا تصور ما كان يمكن أن تحدثه هذه السلطة من تطور إضافي فيما لو منحت مدى زمنياً أطول مما أتيح لها بالفعل.

ولكن المنظور الأهم لمناقشة القضية هي ما يمكن أن تحدثه هذه السلطة من تطور فيما لو تم بناؤها على نحو لا يقل بل يزيد كفاءة عن إسرائيل.

والواقع أن ذلك لم يكن مستحيلاً، فالنضال الفلسطيني بذاته أتاح تطوير أعداد كبيرة من الناس ثقافياً ومنحهم ميلاً خاصاً للتفكير الديناميكي على عكس الميل العام السائد في المجتمعات العربية الأخرى، وحتى بالمقارنة بإسرائيل فالمجتمع الفلسطيني كان مهيئاً لانطلاقة كبيرة، فمثل إسرائيل هو مجتمع حصل على خبرات متعددة ومتنوعة من كل الثقافات المعروفة تقريباً، ولكن على عكس المجتمع الإسرائيلي فالحالة الفلسطينية أتاحت تكوين قدرات قيادية لدى أعداد كبيرة من الفلسطينيين، ولم يكن ينقص الفلسطينيين غير قيادة تؤمن بمعنى حكم القانون والوصول إلى أعلى مستويات الكفاءة من خلال نظم عمل فعالة وموضوعية.

ولو أن الفلسطينيين حصلوا منذ عام 1996 على تجربة أصيلة في بناء الدولة والسلطة والمجتمع تأخذ بالمفهوم الديموقراطي والمعايير الموضوعية لكانت انطلاقتهم قد فرضت واقع وموزاين قوى جديدة مع إسرائيل وفي ساحة الصراع عموماً.

ولم يكن ذلك ما حصل عليه الفلسطينيون، فتمّ تأسيس السلطة الوطنية على قاعدة الولاء، وتكوّن تحالف بين البيروقراطية العسكرية العائدة والتركيبة العشائرية للمجتمع الفلسطيني، وتم بناء نظام سياسي متمركز بصورة مطلقة حول الرئيس، وقام الرئيس نفسه بتفريغ معنى سيادة القانون من المعنى، ودرج على التدخل في أعمال القضاء بل إهانة القضاة وفصله والتلاعب بالبرلمان أحياناً لخرق القانون الأساسي، وتم فرض سياسة للتوظيف على كل المستويات لا صلة لها بالأداء والكفاءة الوظيفية والمهنية واعتمدت كلياً تقريباً على الولاء الشخصي المباشر، وإلى جانب السلطة الكبيرة التي أتاحها القانون الأساسي للرئيس فقد اعتمد في الحكم على آليات الفساد أكثر وبصورة أكثر فوضوية مما هو معروف في البلاد العربية الأخرى.

وشكّل هذا المفهوم لبناء السلطة الوطنية ضربة كبيرة جداً لأهم إنجاز تحقق للفلسطينيين خلال عقود طويلة من المحنة، فعلى المستوى الرمزي بدا الأمر أقرب إلى السخرية المُرّة من النضال الطويل من أجل الاستقلال، وسأل الناس أنفسهم: هل خاضوا النضال وتكلفوا كل هذا الدم للحصول على دولة لن تكون أفضل بأي حال من أي دولة عربية أخرى؟

بل شكل هذا المفهوم لبناء السلطة خنقاً للقيمة الأخلاقية الهائلة للنضال الوطني الفلسطيني ضد إسرائيل، فقد تقمّص هذا المفهوم صورة «العربي الفاسد» التي روّج لها الصهاينة والإسرائيليون طويلاً، والواقع أنهم درجوا على التلاعب بهذه السلطة انطلاقاً من تلك الصورة تحديداً، ووصل التناقض إلى أقصى قدر من الاحتدام عندما تسبب الفساد في تمكين إسرائيل من بناء الجدار بفضل مواد بناء كانت تأتيهم بوساطة وكلاء فلسطينيين ارتبطوا بالسلطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

الديموقراطية كمهمّة وطنية

لنتصوّر ما كان ولايزال ممكناً تحقيقه في ما لو أعيد بناء السلطة الوطنية الفلسطينية بصورة ديموقراطية لتطبيق برامج عمل خلّاقة، الواقع أن تمكن المجتمع الفلسطيني من بناء نموذج من هذا النوع للسلطة يحقّق نقلة نوعية في ساحة الصراع.

فبناء نظام ديموقراطي فلسطيني يقضي تماماً على حجة إسرائيل المؤثرة -مهما كانت ضعيفة- في أنها تواجه الفساد والاستبداد العربي، ففي مواجهة سلطة وطنية وديموقراطية تفقد إسرائيل معركة الصور تماماً، فهي لا تستطيع أن تموه على طبيعة الصراع بإثارة الرأي العام العالمي أو إضعافه بالإشارة إلى الاستبداد العربي «الفلسطيني»، ويعود الصراع واضحاً كما كان معظم الوقت: أي صراع حول اغتصاب واستعادة أراضٍ وحقوقٍ لشعب قديم من جانب عصابات عسكرية عنصرية ذات مشروع استيطاني مغامر. والواقع أن إنجاز هذه المهمة يحول جذرياً موازين القوة في المستوى الخارجي أو العالمي إلى الصراع، فرغم تعاظم التأييد العالمي للحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني فإنه لايزال مقيداً بسبب الانطباع العام السائد في صفوف الرأي العام العالمي حول الاستبداد والفساد الفلسطيني، وحول دور ومكانة العنف في الثقافة العربية الإسلامية عموماً.

ومن ناحية ثانية فإن بناء دولة ديموقراطية ملتزمة بالمعايير الموضوعية في بناء جهاز الدولة ونظم العمل الضرورية لأدائها وظائفها يدفع عملية بناء الأمة الفلسطينية دفعة كبيرة جداً إلى الأمام.

ومن ناحية ثالثة فإن هذا الإنجاز يحول جذرياً ميزان القوة الحقيقي من خلال تعظيم القدرة الفلسطينية على المقاومة والكفاح.

* كاتب مصري