زرع في العرب حلم التوحد، وجعلهم في لحظة تاريخية خاطفة قبلة سياسية للعالم الثالث بأسره، ورقماً ذا بال في المعادلات الدولية، ولولا التآمر عليه من قبل القوى الدولية الغربية، كما سبق التآمر على سابقه محمد علي، لحقق عبد الناصر الكثير من أحلامه المشروعة. «عمل حاجات معجزة
وحاجات كثير خابت
وعاش ومات وسطنا
على طبعنا ثابت
وإن كان جرح قلبنا
كل الجراح طابت»
هكذا رثى الشاعر أحمد فؤاد نجم الرئيس جمال عبدالناصر الذي رحل عن دنيانا في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970، معبراً باقتدار عن مسيرة زعيم عربي عظيم، كلما تملكنا غضب منه لجلب العسكر إلى السياسة في بلدنا، وإجهاض التجربة الليبرالية المصرية الوليدة، والهزيمة من الكيان الصهيوني في عام 1967، والسجون والمعتقلات، غلبنا حنين له، وحب جارف لمقامه ووطنيته ومسعاه وطموحه وكبريائه وأعماله ومساره مسيرته، حين نقارن زماننا بزمانه، وكثيراً من أفعاله وإنجازاته، بما جرى بعده، وما يتم حالياً.
ونجد أنفسنا متأرجحين حيال عبدالناصر بين «بطولته» و«هزيمته» فنجد أنفسنا نمعن النظر في وصف نجيب محفوظ له بأنه «البطل المهزوم»، لكننا نستشيط غضباً كلما حاول أعداؤه أن يهيلوا التراب عليه، وعلى عهده، ويكبر في أعيننا حين نقرأ حاليا أرقاماً عن عدد المعتقلين الرازحين في غياهب السجون، ومعدلات الفقر، واتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية في مصر، ونسيان الاحتفال بعيد الفلاح، وتشريد العمال من المصانع، وفتح الباب على مصراعيه أمام رأس المال الطفيلي ليتوحش ويستشري ويجرف في زحفه غير المقدس قيماً ومعاني ومصالح أناس مستورين، لا يمكن أن يكونوا أبداً عالة على الحياة.
وتسمع اذاننا نداء الناس على عبدالناصر في الملمات التي تصيب العرب من المحيط إلى الخليج، ونقول لأنفسنا إنه لم ينجح في إقامة الوحدة العربية، وفشلت تجربة الوحدة بين مصر وسورية فقط، لكنه زرع في العرب حلم التوحد، وجعلهم في لحظة تاريخية خاطفة قبلة سياسية للعالم الثالث بأسره، ورقماً ذا بال في المعادلات الدولية، ولولا التآمر عليه من قبل القوى الدولية الغربية، كما سبق التآمر على سابقه محمد علي، لحقق عبدالناصر الكثير من أحلامه المشروعة.
ثم نعود لنسأل أنفسنا: هل قام عبدالناصر بثورة، أم كان انقلاباً عسكرياً بحتا؟ ونجيب إجابة توفيقية أو تلفيقية لا ندري ونقول إنه قام بـ«انقلاب ثوري»، بدأه حفنة من العسكر غامروا وأسقطوا الملكية وجلبوا لمصر الاستقلال بعد رحيل المستعمر الإنكليزي، ثم التفتوا إلى الناس، فسُن قانون الإصلاح الزراعي الذي وزع الأرض على الفلاحين، فتحولوا من اجراء إلى ذوي أملاك، وصدر قانون التأميم فاستولت الدولة على كثير من المؤسسات والشركات الخاصة، وفتحتها أمام العمال بلا حدود، وأمنت لهم أوضاعاً جديدة تحفظهم من ظلم أصحاب العمل. ودخلت الدولة بقوة في عملية التصنيع فعمقته، واهتمت بأن تفتح طريق مصر أمام امتلاك صناعات متعددة، خفيفة وثقيلة، أو «من الإبرة إلى الصاروخ». وكل هذا أحدث تغيراً اجتماعياً كبيراً وفارقاً، كمثل الذي حققته الثورات في مناطق عدة وأزمنة عديد، ومن ثم فإن بوسعنا أن نقول على ما جرى في 23 يوليو من عام 1952 انه كان «ثورة»، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن مصر في زمن عبدالناصر ألهمت العرب والعالم الثالث نعمة الاستقلال عن المستعمر الأجنبي، ونعمة «عدم الانحياز» إلى القوى الكبرى الطاغية الباغية، التي تريد دوما أن تُقسم العالم بينها، كأنه شطيرة خبز أو كعكعة لذيذة.
لكننا نندهش من الانهيار السريع لمكتسبات هذه «الثورة البيضاء»، بعد قرار الانفتاح الاقتصادي الذي اتخذه الرئيس أنور السادات وسماه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين «سياسة السداح مداح»، ونستغرب الكلام الذي قاله باحث إنكليزي اسمه ووتر بري في كتابه «مصر بين عهدين: ناصر والسادات» من أن القطط التي سمنت في زمن عبدالناصر هي التي ضغطت على السادات كي يفتح الباب أمام الاقتصاد الحر، ثم نستهجن ما يجري الآن تحت مظلة «الخصخصة» التي يطلق عليها ظرفاء المعارضة وبسطاء الناس «مصمصة» حيث لا يوجد تدبير ولا تخطيط جيد أو أفق جلي لمسيرة الاقتصاد المصري في وقتنا الحالي. ويقول بعضنا وهو يرى المصانع والشركات التي أمّمها عبدالناصر وشيّدها تباع واحدة تلو الأخرى: لو كان ما فعله الزعيم شيئاً حقيقاً وكبيراً ما ضاع كقبض الريح. ويتساءل النابهون: أكان من الممكن إصلاحها بدلاً من بيعها، فيرد آخرون: لقد نهبها كبار الموظفين وتركوها قاعاً صفصفا، وحولوها إلى «عزب» خاصة، أسوأ مما كان عليه الحال قبل الثورة بكثير.
لكن هذا الأخذ والرد، والخلاف مع النفس ومع غيرنا لا يجرح أبداً اتفاقنا جميعا على أن عبدالناصر كان نزيهاً، لم يسرق مليماً واحداً من المال العام، وكان فارساً شرد منه جواده، وكان مغامراً جسوراً وحالماً كبيراً، مات لكن الحلم لم يمت.
* كاتب وباحث مصري