ما قل ودل: ولاية المحكمة الدستورية بتفسير النصوص الدستورية 1-2
استشهدت في مقالي الاثنين 11/2/2008 تحت عنوان «حقوق المرأة السياسية غير قابلة للإلغاء دستورياً»، بالمبدأ الذي أرسته المحكمة الدستورية في طلب التفسير رقم 3 لسنة 1986 عندما اعتبرت القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة الدستورية الذي أسند إليها ولاية تفسير النصوص الدستورية، قد أصبح بصدوره من السلطة التشريعية عصياً على أي تعديل أو تفسير تشريعي تصدره هذه السلطة يمس هذه الولاية لأن المحكمة -وفقاً للرأي الذي تبنته في هذا التفسير- تستمد هذه الولاية من الدستور مباشرة.وقد تلقيت رسالة تعليقاً على هذا المقال من الأستاذه نادية خالد العبدالغفور، مديرة إدارة بوزارة الدولة لشؤون مجلس الأمة تعلق فيها على ما جاء في نهاية مقالتي من أنني استمحت عدالة المحكمة عذراً في أن أختلف معها فيما استدلت به على أن ولايتها في تفسير النصوص الدستورية هي ولاية تستمدها من نصوص الدستور مباشرة، بقول صاحبة الرسالة بأن ولاية المحكمة الدستورية بتفسير النصوص الدستورية، قد أصبحت عاملاً في تحقيق التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والخروج من الأزمات التي تنشأ بينهما بسبب اختلافهما في تفسير بعض النصوص الدستورية في التطبيق، وإن تدخّلها لحسم الاختلاف في التفسير بين السلطتين يعتبر تجسيداً للتعاون بين السلطات الذي أخذ به الدستور في ما نصت عليه المادة 50 من قيام نظام الحكم على أساس مبدأ الفصل بين السلطات مع تعاونها.
وإذا كنت أتفق مع القارئة صاحبة الرسالة -التي أعرف قدرها وعلمها- في أن اللجوء إلى المحكمة الدستورية بطلب تفسير بعض النصوص الدستورية، قد وضع حداً للاختلاف بين السلطتين حول تفسيرها، قبل أن يتطور هذا الاختلاف إلى أزمة لا يكون لها من حلّ إلا حلّ مجلس الأمة، إلا أنني مازلت عند اختلافي مع قرار المحكمة الدستورية في استدلاله على أن ولايتها تفسير النصوص الدستورية هي ولاية تستمدها من نصوص الدستور مباشرة.وربما كان الأمر يحتاج إلى الرجوع إلى ملابسات وظروف التفسير رقم 3 لسنة 1986، الذي صدر فيه هذا القرار، فقد كان النائب القدير حمد عبدالله الجوعان، شفاه الله وعفاه، قد قدم بتاريخ 8/4/1985 وبعض أعضاء المجلس اقتراحاً بقانون بتعديل بعض أحكام المادة الأولى من القانون رقم 14/1973 على نحو يسلب المحكمة الدستورية اختصاصها بتفسير النصوص الدستورية على أساس أن اختصاص المحكمة الوارد في المادة 173 من الدستور قاصر على الفصل في المنازعات التي تتعلق بدستورية القوانين واللوائح من دون أن تصبح جهة إفتاء في تفسير النصوص الدستورية استقلالاً يطلب مبتدأ من طرف واحد يريد به تأويل نص في الدستور مجرداً عن قيام نزاع حول مدى دستورية نص في أحد القوانين.ثم عاد النائب الجوعان وقدم وبعض السادة أعضاء مجلس الأمة بتاريخ 5/4/1986 اقتراحاً آخر بقانون بتفسير المادة الأولى منه بما يأتي «يكون اختصاص المحكمة الدستورية بتفسير النصوص الدستورية وفقاً للمادة الأولى من القانون رقم 14/1973 المشار إليه بمناسبة الفصل في منازعة منظورة أمامها من المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح أو من الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم ولا تختص المحكمة الدستورية بتفسير النصوص الدستورية في غير هذه المنازعات». وعلى إثر ذلك قدمت الحكومة إلى المحكمة الطلب رقم 3 لسنة 1986 لتفسير نص المادة 173 من الدستور، وذلك لبيان مدى ولاية المحكمة الدستورية التي عينها الدستور في هذه المادة، وما إذا كانت هذه الولاية تشمل -بحكم اللزوم – تفسير نصوص الدستور، واستجلاء المعنى الذي قصده المشرع الدستوري منها وإلزام جميع السلطات به سواء أكان ذلك بطلب تفسير نص دستوري عند وقوع خلاف حوله بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أم حتى داخل أي منهما، أم أن هذه الولاية مقصورة فقط على الطعن في قانون معين بدعوى أن هذا القانون مخالف للدستور.وبتاريخ 14/6/1986 قررت المحكمة في طلب التفسير سالف الذكر أن ولاية تفسير النصوص الدستورية قد أسندت إلى المحكمة الدستورية وحدها بأمر من المشرع الدستوري أوردته المادة 173 من الدستور، كما أكدته المذكرة التفسيرية للدستور الشارحة لها، وليس من المشرع العادي بما لا يسوغ معه تعديل هذا الاختصاص أو سلبه إلا بنص دستوري معدل للنص الدستوري المقرر لذلك الاختصاص.وقد استدلت المحكمة على هذا التفسير بما جاء في أسباب قرارها من أن المادة 173 من الدستور عندما نصت على اختصاص المحكمة «بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح»، فإن هذه العبارة تضم في مدلولها ونطاقها المنازعة في فهم النص الدستوري بما يعني اختلاف الرأي في معاني النص ومرامه، وليست المنازعة الدستورية التي أشارت إليها المادة المذكورة قاصرة على الطعن في دستورية تشريع ما، إنما تتسع لتشمل تفسير النص الدستوري بصورة مستقلة، ذلك أن طلب تفسير نص دستوري إنما يحمل في ثناياه وجود منازعة حوله وتباين وجهات النظر فيما تعنيه عباراته، وقد استشهدت المحكمة في تأكيد وجهة نظرها بما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور بصدد المادة 173 المشار إليها حينما قالت «آثر الدستور أن يعهد بمراقبة دستورية القوانين (أو اللوائح) إلى محكمة خاصة يراعى في تشكيلها وإجراءاتها طبيعة هذه المهمة الكبيرة، بدلاً من أن يترك ذلك لاجتهاد كل محكمة على حدة، مما قد تتعارض معه الآراء في تفسير النصوص الدستورية أو يعرض القوانين (واللوائح) للشجب من دون دراسة لمختلف وجهات النظر والاعتبارات، فوفقاً لهذه المادة يترك للقانون الخاص بتلك المحكمة الدستورية مجال إشراك مجلس الأمة بل الحكومة في تشكيلها إلى جانب رجال القضاء العالي في الدولة، وهم الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين، وفي مقدمتها الدستور، قانون القوانين».بما يتضح معه على وجه اليقين –في رأي المحكمة– أن المشرع الدستوري أراد أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة التي يوكل إليها أمر تفسير ما غمض من نصوص الوثيقة الدستورية.وهو استدلال نختلف مع قرار المحكمة فيه وهو ما سندلل عليه في مقال قادم بإذن الله.