نهاية الديموقراطية...!
هل كانت محطة 11 سبتمبر نهاية للديموقراطية، مثلما كان انتهاء عهد الحرب الباردة نهاية للتاريخ لدى بعضهم أو نهاية للأيديولوجيا؟ أم أن التاريخ سيتخذ مساراً جديداً لابدّ من استنباطه لاستمرار الديموقراطية وتواصلها كمنجز إنساني وحق بشري؟!
بعد ست سنوات من إعلان إدارة الرئيس الأميركي بوش خطة طموحة لنشر الديموقراطية وتعزيزها باعتبارها وسيلة مضادة للإرهاب، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية، تتراجع هذه الموجة اليوم بعد تصاعد العنف الطائفي في العراق وانفلات الإرهاب الأعمى المفتوح على حرب أهلية وتقويض وحدة الدولة، إضافة إلى وصول حكومة أفغانستان «المنتخبة» إلى طريق مسدود، والأكثر من ذلك فإن الديموقراطية «الموعودة» جلبت معها حركة «حماس» كقوة راديكالية إلى سدة الحكم في أراضي السلطة الفلسطينية، وبشكل عام فإن الضغوط للإصلاح والتحوّل الديموقراطي في المنطقة، جاءا بمردود عكسي لما تريده واشنطن، وهكذا أصيب البعض بفوبيا ورهاب الديموقراطية، بل أخذ يتحدث عن نهايتها أو ذبولها، مقابل قضية الأمن والاستقرار وإن كان على حساب الحرية والكرامة أحياناً.لعل المشكلة الأولى في الأطروحة الديموقراطية والقائمين عليها تتعلق بالسؤال الآتي: هل الديموقراطية هي استراتيجية أم تكتيك؟ وإذا كانت استراتيجية، فعلينا إذاً تقبّل نتائجها، أما إذا كانت تكتيكاً ضمن الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، فالأمر سيكون مختلفاً، خصوصاً بإخضاعها لاعتبارات ظرفية أو موقتة أو حتى طارئة، وليست بعيدة المدى وتراكمية وتدرّجية، فهناك علاقة بين الديموقراطية وحقوق المواطنة ودور المجتمع المدني والحقوق والحريات بشكل عام، كما أن الفساد والديموقراطية يتعارضان، لاسيما في غياب الشفافية والمحاسبة.المشكلة الثانية هي في زاوية النظر إلى العملية الديموقراطية، أهي غاية أم وسيلة؟ فهي مسار متصل ومتواصل وليست هدفاً بحد ذاته، وسواء أكان الأمر في أفغانستان أم العراق أم حتى أوكرانيا وثورتها البرتقالية فإن الإجراءات المتّبعة ليست هدفاً إنما هي وسيلة للوصول إلى مجتمع الحرية والرفاهية والعدل الاجتماعي.وهناك إشكالية أخرى تتعلق ببناء القدرات، فالديموقراطيات لكي تتقدم وتزدهر، لابدّ من أرضية وثقافة ووعي بأهميتها ونشرها، وبالتالي فهي ليست مفروضة من الخارج بقدر كونها تعبيراً عن حاجة ماسة وضرورية، وإلاّ فإن هذا الخيار سيصطدم بالكثير من المعوّقات الداخلية والخارجية، إذ لا يمكن الحديث عن الديموقراطية دفعة واحدة بإسقاط الرغبات على الواقع، أو لمجرد إجراء انتخابات أو التحضير لدستور حتى إن كان متقدماً أو الإقرار بحرية التعبير وبالتعددية.الديموقراطية لا تستقيم في ظل الطائفية السياسية أو إضعاف هيبة الدولة أو انتشار الميليشيات أو فقدان الأمن، أو في ظل المذهبية والعشائرية والإثنّية والتشظّي المجتمعي...إلخ، والمشكلة الأخرى هي أن الديموقراطية تحتاج إلى حلفاء، ولعل أهم حليف لها هو الدولة المدنية والحداثة والتقدم الاجتماعي ونشر التعليم واحترام حقوق المرأة وإشراكها في العملية السياسية والاعتراف بحقوق الأقليات وبإقرار حرية التعبير وحق المشاركة السياسية وحرية التنظيم الحزبي والنقابي وحق الاعتقاد، ولعل وجود الإرهاب يشكل عدواً موضوعياً أمام نشر الديموقراطية.وإذا كانت إدارة الرئيس بوش قد أعلنت بعد أحداث 11 سبتمبر «خياراتها» الديموقراطية وتوسيع حدود الحرية على النطاق العالمي، فإن الذي حدث فعلياً أدى إلى نزوع كبير في الهيمنة، وتقليص فرص الحرية والحقوق المدنية على مستوى البلدان الغربية وعلى المستوى العالمي، ضد الأجانب خصوصاً من أصول عربية ومسلمة، إذ جرت محاولات لاستفزازهم واعتقال وطرد المئات منهم في ردة فعل غير مبرّرة ومن دون الرجوع إلى القضاء، وهو ما استغلّته بعض حكومات الشرق الأوسط لتقليص فرص الحرية بحجة محاربة الإرهاب.ومن هنا يمكن ملاحظة التصور الخاطئ الذي أعقب انهيار الأنظمة الشمولية الانغلاقية في أوروبا الشرقية التي استبدلت الحكام بآخرين أكثر تمثيلاً للشعب، لكن ذلك لا يعني إتمام عملية بناء المجتمع الديموقراطي، إذ إن ضعف فكرة الديموقراطية لا يجعل البلدان التي أفلتت من سلطان التوتاليتارية (الشمولية) تدخل بسهولة في نادي الديموقراطية بمجرد إزاحة كابوس الاستبداد. والديموقراطية ليست أيضاً مجرّد اقتصاد للسوق من حيث الشكل الاقتصادي أو التعددية الفكرية والثقافية ببعدها «العلماني»، إنما -وهذا هو الأهم- هي عملية تطور تاريخي، حضاري، مؤسسي، يعتمد على التراكم وبناء تقاليد لاحترام الرأي الآخر والتداول السلمي للسلطة وسيادة القانون والمساءلة للحاكم الذي يختاره المحكومون وتمثيل للأقلية في إطار من المشاركة السياسية.على هذا الأساس، فالديموقراطية ليست مجرد شكل لنظام الحكم فحسب، بل هي بحث في طبيعة الدولة، ولذلك لابدّ من التمييز بينها كمبادئ وبينها كآليات أو إجراءات، تختلف من مجتمع إلى آخر، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيته ودرجة تطوره ورسوخ هياكله وتراكيبه ومدى تشبّعه بالقيم والمُثل الديموقراطية ومدى الضمانات التي توفرها، والأرضية التي تنمو فوقها.وبالقدر الذي تهتم فيه الديموقراطية بالمجتمع والمجموع، فإنها تعترف بالفرد ككينونة من خلال علاقته بالدولة التي ترعاه وتحرص على صيانة حقوقه، ولعل توافر السلم والاستقرار أحد شروط تطور العملية الديموقراطية.إن محطة 11 سبتمبر كانت اختباراً حقيقياً لمسألة الديموقراطية، ففي بلد كالولايات المتحدة الأميركية التي شهدت تحوّلات ديموقراطية لما يزيد على قرنين من الزمان، سبّبت تلك الأحداث المأساوية، المدانة بكل المعايير الحقوقية والأخلاقية والدينية والإنسانية، اهتزازاً في المفاهيم والقيم والممارسات التي نشأت وترعرعت زمنا طويلا، واكتسبت ألقاً خاصاً، إذ تأثرت منظومة حقوق الإنسان كلها، والعملية الديموقراطية بشكل عام.إن إصدار قوانين واتخاذ إجراءات مشدّدة اقتربت من حالة الطوارئ ونظام الأحكام العرفية وربما حالة الحرب، على المستويين الداخلي والخارجي، وذلك تحت عنوان «مكافحة الإرهاب» في حملة دولية، خصوصاً بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1373 في 28 سبتمبر 2001، أدى إلى تعريض العدالة إلى نقص فادح وتجاوز خطير، لاسيما بشأن تصدّع الحق في المحاكمة العادلة. وأجاز قرار اتخذه الرئيس بوش إجراء محاكمات عسكرية سرّية وضمن قواعد خاصة، وقراراتها غير قابلة للاستئناف، وهو ما فسّره بعض القانونيين الأميركان بأنه تجاوز ضد الجهاز القضائي، وكذلك ضد قواعد القانون الدولي والمعايير الدولية بشأن المحاكمة العادلة، وما جرى في غوانتانامو وأبو غريب والسجون السرية الطائرة، إنما يثير الكثير من علامات الشك حول الديموقراطية «المفقودة»!وذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك حين اعتبر هذه الإجراءات انقلاباً تقوم به السلطة التنفيذية على الدستور الأميركي (الديموقراطي)، كما ذهب إلى ذلك البروفيسور بويل (Boyel) الذي قال إنها تتجاوز اتفاقيات جنيف لعام 1949، لاسيما الاتفاقية الثالثة والرابعة.أسوق ذلك عند الحديث عن المعوّقات التي تقف حجر عثرة قوياً أمام تقدم الديموقراطية في الوطن العربي، فإذا كان حدث طارئ -رغم فداحته وإجراميته وتجاوزه المطلق على حقوق الإنسان خصوصاً استهدافه الناس الأبرياء العزّل- يؤدي إلى تراجع كبير وربما خطير في دولة ديموقراطية ذات إرث وتقاليد عميقة الغور، فما بالك بالمعوّقات التاريخية الخارجية والداخلية لمسألة الديموقراطية في منطقتنا؟فهل كانت محطة 11 سبتمبر نهاية للديموقراطية، مثلما كان انتهاء عهد الحرب الباردة نهاية للتاريخ لدى بعضهم أو نهاية للأيديولوجيا؟ أم أن التاريخ سيتخذ مساراً جديداً لابدّ من استنباطه لاستمرار وتواصل الديموقراطية كمنجز إنساني وحق بشري!!* كاتب ومفكر عربي