فن النقد عند العرب الأقدمين

نشر في 16-10-2007
آخر تحديث 16-10-2007 | 00:00
 د. عمار علي حسن

فطن علماء العرب، في اللغة والأدب والاجتماع والفلسفة، أن ما بين أيديهم من قصائد وشهادات وخواطر نثرية تنطوي، إلى جانب الجمال والذوق الرفيع، على قيم وقرت في نفوسهم وعقولهم، إلا أن أحداً منهم لم يبلور هذا بشكل متكامل ويجمع المتفرق الذي جاء هنا وهناك في كتاباتهم وأبحاثهم.

يقول السفهاء منا إننا عالة على ما أنتجه الغرب في مجال النقد الأدبي، ويتناسون ما أنتجته القريحة العربية في الزمان الأول، والذي كان ثورة معرفية بمقاييس عصرها. ويميل هؤلاء إلى الانسحاق أمام «المركزية الأوروبية» التي ترى أن خط الحضارة سار من الإغريق رأساً إلى أوروبا الحديثة، في جهل وتغطرس ينسى أن الإغريق بنوا على الأفكار والمعارف التي جلبوها من مصر القديمة، وأن العرب بنوا رقائق حضارية عدة على المنتج الإغريقي، استفاد منها الأوروبيون في عصر النهضة. ويتناسى هؤلاء أن ديننا يحضنا على التقاط الحكمة من أي مكان، ومن ثم فلا ضير أبداً أن نستفيد من الجهد النظري الكبير الذي وفره نقاد الغرب وعلماؤه في معاهدنا وجامعاتنا.

لقد أدرك العرب الأقدمون في مرحلة مبكرة الوظيفة الاجتماعية للشعر، فكان الشاعر هو ناصح القبيلة، وحكيمها، الذي عركته الأيام، والمدافع عنها، الذي يمنح نسقها الاجتماعي تبريره، وكان الشعر هو ديوان حياتهم، حيث حمل عاداتهم وتقاليدهم، وانطوى على أفراحهم وأتراحهم.

وعلى ضفاف البلاغة الفياضة التي حفل بها الأدب العربي، وشغلت رؤوس من أمعنوا النظر فيه، لبس هذا الأدب ثوب المجتمع في تاريخ العرب، فكان الشعر ديوانهم الذي يسجل أيامهم ويرسم ملامح علاقة الجماهير بالسلطان. وفرضت السياسة نفسها على الأدب فلم يستطع منها فكاكاً، وهو يسطر الواقع وينتقده ويُشَيّد بنيان الخيال ويفرضه شعراً ونثراً.

وفطن علماء العرب، في اللغة والأدب والاجتماع والفلسفة، أن ما بين أيديهم من قصائد وشهادات وخواطر نثرية تنطوي، إلى جانب الجمال والذوق الرفيع، على قيم وقرت في نفوسهم وعقولهم، إلا أن أحداً منهم لم يبلور هذا بشكل متكامل ويجمع المتفرق الذي جاء هنا وهناك في كتاباتهم وأبحاثهم، حتى جاء نقاد الأدب العربي المعاصر ليستفيدوا من الآفاق الرحبة التي جادت بها سوسيولوجيا الأدب في الغرب ويعيدوا النظر في تراثهم الأدبي وفق هذا المنظور، مع الوعي بخصوصية الأدب العربي من جهة، وما أنتجه نقاد الأدب وعلماء الاجتماع العرب من جهة ثانية.

ومع ذلك، فإن النقد العربي صب جل اهتمامه على البنية الداخلية للنصوص الشعرية والنثرية، على حساب السياق الاجتماعي، لافتاً انتباهنا منذ اللحظة والوهلة الأوليين إلى أهمية تحليل النص من داخله، اتكاءً على عطاء علم البلاغة، الذي ارتقى فيه العرب مكانة كبيرة، بمقاييس الزمن الماضي.

وأول كتاب في هذا المضمار، وهو « طبقات الشعراء» لابن سلام (ت 232 هـ) قسَّم الشعراء على أساس الزمان والمكان، متناولاً إنتاجهم على أساس «التذوق الحسي»، ثم جاء ابن قتيبة (ت 276 هـ) فرفض في كتابه «الشعر والشعراء» ترتيب الشعراء على أساس غزارة الإنتاج أو الزمن. وابتعد عبد العزيز الجرجاني (ت 290 هـ) في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه» عن التعميمات، وحاول استخلاص نتائجه عن طريق الاستقراء، ممهداً بذلك الطريق أمام تحول النقد الأدبي إلى شيء أقرب للبلاغة، حتى جاء أبو هلال العسكري، ليجعله في كتابه «سر الصناعتين» بلاغة صرفة.

وأخذ الثعالبي في كتابه «يتيمة الدهر» النقد في طريق قريب نسبياً من دراسة علاقة النص الشعري بسياقه الاجتماعي، حين ربط شعر المتنبي بأخبار الشاعر وأحواله. وقدم عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري تجربة نقدية ناضجة، حين قاوم تيار الصنعة اللفظية، ونادى بأن الألفاظ خدم للمعاني، وفطن إلى أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ، بل مجموعة من العلاقات، كما فطن إلى الأساس الإشاري الذي يحدد العلاقة بين الدال والمدلول، وبذلك يكون قد وصل إلى مناطق قريبة من تلك التي وصل إليها علم اللغة في القرن العشرين بأوروبا، على يد فرديناند دي سوسير.

وقد كان لابن خلدون إسهام ملموس في هذا المضمار، من خلال حديثه عن الأدب، الذي أطلق عليه اسم «علم المعاني»، أو «علم البيان»، معرفاً إياه بقوله «هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم». وتتلخص الرؤية الاجتماعية التي حددها ابن خلدون للأدب في أمرين أساسيين: الأول هو ضرورة أن يكون الشعر مفهوماً للناس، بحيث يؤدي وظيفته على أكمل وجه، وهنا يقول «لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن... الكلام الذي هو العبارة والخطاب إنما سره وروحه في إفادة المعنى. وأما إذا كان مهملا فهو كالموات لا عبرة به».

وتعود رغبة ابن خلدون في أن يكون الشعر مفهوماً إلى إيمانه بأن الشعر هو ديوان العرب «فيه علومهم وأخبارهم وحكمتهم. وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون في سوق عكاظ لإنشاده». أما الثاني فهو «اختلاف اللسان باختلاف المكان»، وهو ما يتبين من قوله «اعلم أن الأذواق في معرفة البلاغة منها كلها إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها، ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية. فلا يشعر الأندلسى بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب، ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس، لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفان فيهما، وكل أحد منهم مدرك بلاغة لغته، وذائق محاسن الشعر من أهل جلدته». وبذلك يكون ابن خلدون قد اقترب من ربط الأدب بسياقه الاجتماعي إلى حد كبير، جنباً إلى جنب مع الدراسات البلاغية التي ركزت على بنية النصوص وجمالها وشكلها، وهي مسألة يجب ألا ننساها، ونهيل التراب على ما أبدعته قريحة الأجداد، ونستسلم لمقولات يروجها حاقدون وجاهلون بأن العرب لم يقدموا إلى الإنسانية أي فكر نقدي.

* كاتب وباحث مصري

back to top