Ad

الركود والانكماش الحضاري المذهل الذي انحشرنا فيه لسبعة أو ثمانية قرون متواصلة أحدث قطيعة مع المحصول الثقافي لعصر الصعود الحضاري، أما السر في هذا الانقطاع الحضاري فهو حرص النظم الأجنبية، ولو كانت إسلامية، على تجريد العرب وشبابهم من الحق في الجندية ومن التدريبات الضرورية على مهارات الجندية.

كل عام وأنتم طيبون في رمضان جديد.

ما أطرحه للنقاش معكم اليوم هو ضرورة انتهاز فرصة رمضان هذا العام لإنجاز مهمة كبيرة: أعني غرس قيمة أو إرساء فضيلة أو كسب مهارة أو تحقيق طفرة في فهمنا الثقافي والاجتماعي للصيام. دينياً: رمضان شهر الصوم. ويقوم فقهاؤنا الأفاضل بنشر المعرفة بالقيم والمعاني والشروط الفقهية للصيام. وأتصور أن على علمائنا الاجتماعيين أن يقوموا بجهد مواز لمناقشة ما يمكن بناؤه على القيمة الدينية والروحية للصيام ولرمضان عموماً. وما أطرحه للنقاش معكم اليوم هو ضرورة انتهاز فرصة رمضان هذا العام لإنجاز مهمة كبيرة: أعني غرس قيمة أو إرساء قاعدة أو تحقيق طفرة في استيعابنا لفضيلة ومهارات «التركيز». دينياً: رمضان شهر الصوم. أما ثقافيا فاقترح أن يعود رمضان شهراً لبناء عادة التركيز. وأتصور أنه لو أنجزنا هذه المهمة وأعدنا بحث الطريقة التي نزرع فيها فضيلة التركيز لدى أولادنا يمكننا أن نحدث تجديدات ثقافية عظيمة.

التركيز بين الثقافة العربية والكونفوشية

كل عام وأنتم طيبون بمناسبة رمضان الكريم. كم مرة تبادلنا فيها نحن المسلمين هذه التحية؟ ملايين المرات. ساعدتنا وتساعدنا هذه التحية على التمسك بعادات الصيام. ولكنها لم تعد تساعدنا وحدها على الانطلاق الحضاري والثقافي، ولا بناء سبل التقدم الشخصي والقومي. ولذلك أعتقد أننا نحتاج الى إحداث طفرة ثقافية في ممارستنا للصيام والبناء على دلالاته الدينية والأخلاقية بإحداث تطوير ثقافي. وأعتقد أننا سنكون أطيب حالاً لو أننا طبقنا المفهوم الثقافي الإسلامي لرمضان، وليس مفهومه أو طقوسه الدينية وحدها.

لننظر إلى الأمر في ثقافات أخرى

أكثر ما يلفت نظري هو مفهوم «التركيز» في الثقافات الآسيوية. كان هذا المفهوم وراء ابتكار الرياضات أو الفنون العسكرية، كما يسميها الغربيون، أو الرياضات الذهنية كما تسمى في التعبير الاصطلاحي الكونفوشيوسي مثل الجودو والكراتيه. في تلك الرياضات كلها المفتاح والهدف هو تنمية القدرات الإنسانية الفردية من خلال التركيز بما في ذلك؛ تركيز الذهن، وتركيز التأمل، وتركيز المجموع العضلي والعصبي للإنسان، بما يسهل إنجاز أي مهمة ذهنية أو جسدية. يستطيع الشخص بعد اتقان هذه الرياضات أن يركز بصره على كوب من الزجاج فينكسر، والأهم أنه يستطيع أن يروض ويستدعي قدرات بدنية عالية قد يوظفها في القتال أو في غيره من التحديات الكبيرة.

والواقع أن فضيلة التركيز أهم بكثير في الأداء العقلي للناس. وقد نستطيع أن نفهم لماذا يبرع اليابانيون والصينيون والكوريون في الرياضيات وعلوم الاحصاء والاقتصاد القياسي بالإشارة إلى فضيلة التركيز الذهني الذي تكسبه هذه الثقافة لأبنائها، سواء عبر هذه الرياضات الموروثة أو عبر القنوات والآليات الثقافية الأخرى والمنبثة في مدرسة تربية الأولاد الآسيوية الأصيلة.

لماذا امتازت عنا الثقافات الآسيوية بهذه الرياضات، ومن ثم بفضيلة التركيز؟ وربما نتساءل أيضا لماذا لم ننجح في تطوير أسلوب أو مدرسة خلاقة في تربية الأطفال والأولاد تعلمهم التركيز الخلاق رغم أن لدينا الأساس الديني الضروري، وهو الصيام.

كيف ضاعت منا فضيلة التركيز؟

قد يجيب بعضهم بأن تعلق الثقافة العربية الاسلامية بعلوم اللغة والبيان وبالذات الشعر أبعدها عن الاهتمام بفضيلة التركيز. فالأصل في التعبير الشعري هو الافراط والمبالغة، فضلاً عن المجازات والمشابهات والمحسنات. بهذا المعنى الشعر هو نقيض الرياضيات.

والواقع أن ذلك ليس صحيحاً أبداً. فحتى لو أن بالشعر وعلوم البيان مبالغات وإطالات، فالإبداع الشعري هو بذاته تدريب فَّذ في التركيز الذهني. ولم يكن هناك تناقض أبدا بين قرض الشعر واتقان فنون القتال التي تحتاج الى أعلى مستويات التركيز. وأسطورة عنترة بن شداد هي خير دليل على هذه الحقيقة. ومن ناحية أخرى، كان لدى منطقتنا من العالم محصول وافر ومميز من الرياضات الذهنية والبدنية نشأ على أرضية الثقافة البدوية والمدنية قبل الإسلام، وعبر قنوات وإبداعات الحضارات التاريخية القديمة الفرعونية والآشورية والسامرية والبابلية وغيرها، وجميعها وثَّقت جانباً من محصولها في هذه الرياضات والإبداعات والفضائل.

التركيز بين الجندية والتحدي الحضاري

ازدهر هذا المحصول مع صعود الإسلام لأن جانباً أصيلاً ومهماً منه يرتبط بالصيام أي بشهر رمضان بالذات. ومن ثم نستطيع أن نقول إن الإسلام أضاف إضافة فذة الى حضارات المنطقة، عندما جعل الصيام عادة وشعيرة منظمة. فكيف ولماذا خسرنا ما كان امتداداً طبيعياً لهذه الشعيرة أو هذه الممارسة الدينية الراقية؟

إجابتي هي أننا خسرناها لأسباب سياسية وليس لأسباب ثقافية.

الركود والانكماش الحضاري المذهل الذي انحشرنا فيه لسبعة أو ثمانية قرون متواصلة أحدث قطيعة مع المحصول الثقافي لعصر الصعود الحضاري. أما السر في هذا الانقطاع الحضاري فهو حرص النظم الأجنبية ولو كانت إسلامية على تجريد العرب وشبابهم من الحق في الجندية ومن التدريبات الضرورية على مهارات الجندية. إن سيطرة مختلف النظم السياسية والعسكرية التركية والمملوكية على النظم السياسية في المنطقة، مع نهاية العصر العباسي الأول أدى إلى حصر رمضان ومعنى الصيام في مستواه الديني البحت. ونتيجة لذلك ازدادت المسافة الفاصلة عن الموروث الثقافي ومردوداته ومحصولاته في أساليب التربية، ومن ثم بعدنا أكثر عن الرياضات الذهنية والبدنية التي تعلمنا التركيز.

هل يعني ذلك أن الجندية وحدها هي الأصل والباعث على التركيز كفضيلة ثقافية؟

لا بالقطع. فكل سلوك إنساني له هدف ومن ثم يحتاج إلى تركيز. ولكن أعظم قيمة للتركيز كفضيلة ثقافية وحضارية تظهر عند بروز تحديات كبيرة. وكانت الجندية والحرب هي أعلى مستويات التحدي في الماضي. اليوم صار الإنجاز العلمي والتكنولوجي والاقتصادي هو التحدي الأكبر للأمة العربية. وما نزعمه هو أن الصيام كان القابلة الروحية والمادية معاً لفضيلة التركيز ونشرها من خلال مدرسة مميزة في التربية والتعليم.

حسناً. إذا كان المعنى الروحي والديني للصيام واضحاً، فكيف يمكن بناء وتطوير معادله الثقافي: أي فضيلة التركيز؟

أتصور أن الإجابة هي أن يكون نشر فضيلة التركيز هي الأساس في مشروعات رمضانية كبيرة. الإجابة أن يتحول رمضان من شهر صيام فحسب إلى شهر صيام وإنجاز كبير في ميادين محددة وبصفة أخص في ميدان التعليم والابتكار. يعني ذلك أن ننأى بأنفسنا عما نمارسه في رمضان من مفاهيم هي عكس معناه وضد قيمته وفكرته، وهي نفي لمفهومه من ترد للعمل واستهلاك للطعام وتفضيل للكسل وإطلاق لشرور التوتر والعصبية.

المشروع الرمضاني الذي قد أقترحه هذا العام هو اجتماع عدد من العلماء العرب لوضع استراتيجية لإكساب أولادنا فضيلة التركيز، وممارسة هذا التركيز في تحقيق أفضل أداء ممكن في مجال الرياضيات. وربما نبدأ تطبيق هذه الإستراتيجية من رمضان المقبل أو بعد القادم.

هذا هو مشروعي لرمضان. فهل لديكم مشروعات أخرى؟ ربما نبدأ بجمع هذه المشروعات الرمضانية فيصبح لدينا مشروع حضاري واحد ينطلق من فهم أرقى لرسالة الإسلام.

* كاتب مصري