Ad

«باب الحارة» تلقى حفاوة غير مسبوقة، وتمت معاملته على أنه «فتح عربي تاريخي»؛ ربما لا يقل عن «عين جالوت» أو «حطين» أو حتى «تشرين»، وهو كما بتّ تعرف الآن ليس سوى نتاج حكايات الجد على المقهى، وتلفيقات «أكل العيش»، واعتبارات التسويق، وبخل الإنتاج، وغباء الرقابة، وأمنيات الصبيان والبنات.

لم يكن منظّرو الدراما الغربيون يدركون أن مفهوماً جديداً لـ «الدراما التفاعلية» سيُجترح في شهر رمضان من العام الجاري، من خلال مسلسل سوري شهير اسمه «باب الحارة»؛ فذلك المسلسل الذي نال نجاحاً كبيراً، وحوّل العاملين به نجوماً مرموقين، أو زاد تألقهم، كشف عن قواعد في كتابة الدراما العربية تنقلها إلى التفاعلية التامة!

و«الدراما التفاعلية» هي مفهوم يعني ببساطة إلغاء الحدود والتمايزات بين الكاتب والمتفرج والمنتج والممثل والشخصية، نحو إنتاج نص أو عمل متأثر بالتفاعلات بين تلك الأطراف جميعها. وكما تقول الناقدة برندا لورال، فإن المتفاعلين في إنتاج مثل هذا النص «مثل أفراد جمهور يستطيعون اقتحام خشبة المسرح، ليكونوا شخصيات متعددة، ويغيروا الحدث الدرامي بما يقولون ويفعلون هم أنفسهم».

فـ «الدراما التفاعلية» تعتمد تماماً على «النص المتفرع»؛ ذلك النص الذي تُحدد محاوره الرئيسة من قبل الكاتب، ثم يكتبه الجمهور ويحرره، من خلال اختيارات بين اتجاهات واحتمالات متعددة، يمكن للجمهور المشارك من خلالها اختيار اتجاه محدد للعمل، وتحويل مسار الأبطال والشخصيات كما يشاء.

وفي حوار أجُري مع مروان قاووق كاتب المسلسل الشهير، تحدث الرجل، بسلاسة وحسن نية نادرين، عن الدرجة العالية من «التفاعلية» التي حظي بها مسلسله في مرحلة الكتابة. فقد كشف قاووق، الحاصل على شهادة من «معهد صناعي لاسلكي»، ويعمل «مساعد مهندس»، أن سبع جهات رئيسة تدخلت في كتابة العمل «تفاعلياً»، لتصل به إلى المضمون الذي ظهر به على الشاشات، فخلب ألباب الناس، وأجلسهم متسمّرين لساعات طوال على مدى الشهر الكريم.

بداية، فقد اتضح أن الحجر الأساس للمسلسل كان حكايات جد قاووق نفسه؛ وهو صاحب مقهى دمشقي، يبدو أنه أفرط في رواية أحداث وتواريخ حارته والحارات المجاورة لحفيده، الذي لم يكذب خبراً، فالتقط الحكايات ليحولها حلقات مكتوبة، ثم دفع بها إلى المنتج، لقاء «700 دولار أميركي عن الحلقة الواحدة».

المتفاعل الثاني كان المخرج؛ الذي تلقى من المؤلف، وفق ما روى الأخير، حلقات «الجزء الثاني»، وهي أول ما كتب على الإطلاق، لكنه طلب إيضاحات في شأن بعض التطورات والأحداث، وهو الأمر الذي استلزم صنع خلفيات معينة، وهنا قرر المؤلف أن يتوسع في تلك الإيضاحات، لتثمر الجزء الأول، الذي لاقى نجاحاً مشهوداً بدوره.

المتفاعل الثالث كان المُسوق، الذي عرض الحلقات على «جهات خليجية»، بحسب المؤلف، قبل الإنتاج، لضمان التسويق، فما كان من تلك الجهات إلا أن اعترضت على إحدى الحبكات الدرامية في النص «لمخالفتها للأعراف الدينية والاجتماعية في الخليج».

فقد كانت إحدى حلقات الصراع بالعمل تعتمد على فكرة طلاق سيدة ثلاث طلقات بائنة من زوجها، الأمر الذي يحتم أن تلجأ لما يسمى بـ «المحلل» في مصر، أو «التجحيشة» في الشام؛ أي تزويج تلك السيدة من شخص آخر زواجاً صورياً، ثم طلاقها منه، ليحل لها زواجها من طليقها الأول مرة أخرى.

ويبدو أن المسوقين وضعوا شروطهم المسبقة في هذا الصدد لضمان عدم الاعتراض على العمل بأي صورة من الصور، وهو ما تقبله المؤلف سريعاً، برغم إصراره على أن عقدة «التجحيشة» كانت ستفرز الكثير من التناقضات المثرية للعمل.

رابعاً أتى السياسي؛ متمثلاً في الرقابة، وفق ما أكد المؤلف؛ فقد رأت «جهات سياسية» ضرورة التخفيف من خط الصراع بين الوطنيين السوريين والاحتلال الفرنسي في المسلسل، «لأنه عندما تم شراء العمل كانت علاقة العرب مع فرنسا جيدة لموقفها الرافض من احتلال العراق». وقد استجاب المؤلف لذلك الأمر أيضاً، فخفف من المشاهد والحكايات التي كانت تتمحور حول الكفاح الوطني السوري في زمن الاحتلال الفرنسي الذي يعالجه المسلسل.

إنتاجياً، أوضح المؤلف أنه تم «حذف مشاهد كثيرة لأسباب مالية»، منها مشهد المعركة الكبيرة في نهاية المسلسل لتحرير البطل من الأسر، فضلاً عن العديد من المشاهد والأحداث الأخرى التي رأى الإنتاج أن الاستغناء عنها ضروري لتقليص الإنفاق.

لم يبق للمؤلف إلا أن يستجيب متفاعلاً آخر هي ابنته، التي طالبت بزواج بطلين من أبطال العمل، وجدتهما متناسبين من وجهة نظرها، وقد تزوجا في العمل فعلاً. أما الابن (ابن المؤلف)، فقد طالب أباه بدوره بتأديب أحد أبطال العمل، وهو الأمر الذي تحقق فعلاً عبر علقة ساخنة نالها هذا البطل.

بقي أن المؤلف اشتكى من أن حقه الأدبي والمادي قد هُضم؛ فهو لم يتقاض المقابل المفترض من وجهة نظره، كما أن أبطال العمل ومخرجه «تتم دعوتهم الى المنتديات والمحافل واللقاءات التلفزيونية دونه»، برغم أنه «صاحب العمل».

«باب الحارة» تلقى حفاوة غير مسبوقة، وتمت معاملته على أنه «فتح عربي تاريخي»؛ ربما لا يقل عن «عين جالوت» أو «حطين» أو حتى «تشرين»، وهو كما بت تعرف الآن ليس سوى نتاج حكايات الجد على المقهى، وتلفيقات «أكل العيش»، واعتبارات التسويق، وبخل الإنتاج، وغباء الرقابة، وأمنيات الصبيان والبنات.

باب واحد للحارة وسدنة كثيرون؛ بعضهم يسعى الى تأمين المكسب، أو تمرير الغايات، أو نفاق العامة، أو تحقيق الأمنيات البسيطة.

ادخلوا من الباب، واستمتعوا بالحكايات، ولا عزاء للمؤلف.

* كاتب مصري