الوثيقة التي كتبها سيد إمام الشريف تؤسس لقواعد جديدة في تفكير الحركات الجهادية، فهي تنقلها من عالم الإطلاق والخيال إلى عالم الواقع والممكن، ففي القديم كانت سياسة التيار الجهادي تجاوز الواقع والاستعلاء عليه، أما اليوم فإن الوثيقة تؤسس لكيفية فهم الواقع والممكن والتعايش معه ومواجهة مصاعبه من دون غائية توظف الوسائل أياً كانت لتحقيقها، فالواقع الذي يتحرك فيه الجهاديون لم يأخذوه في الحسبان ولم يضعوه في الاعتبار، مع أن العلاقة جدلية لا تنفصم بين الحكم الشرعي المطلق والواقع الذي يطبق فيه وهو ما نبه عليه «ابن القيم» بقوله: أن يأخذ الواجب حقه من الواقع وأن يأخذ الواقع حقه من الواجب، فالحكم الشرعي أو المدرك الشرعي -بتعبير الشاطبي- يطبق في واقع، ومن ثم لتحقيق مناطه أي تطبيقه في أرض الواقع المعين لابد من معرفة ذلك الواقع والإحاطة به إحاطة متمكنة، كالتمكن والإحاطة بالحكم الشرعي، وفي هذا تقول الوثيقة «الفتوى هي اختيار ما يناسب العلم العام لواقع معين، أي لأناس معينين في مكان معين وزمان معين، فالفتوى هي معرفة الواجب في الواقع»، بل إننا نتجاسر على القول: إن الفتوى أو النازلة، الأصل فيها معرفة الواقع والحال والزمان والمكان والناس والعصر، ولم يكن الفكر الجهادي يأخذ في اعتباره هذه العناصر، وهو ما قاده إلى إشكاليات بالأساس في المنهج وطريقة التفكير.
والحكم الشرعي هو مطلق عن الزمان والمكان، ومتجاوز لهما معا، أما تطبيقه فيعني لحظة زمانية ومكانية، وأناساً يطبق فيهم هذا الحكم، ومن ثم، فمعرفة أحوال المعينين الذين يطبق بشأنهم الحكم المطلق هو الأصل الحاسم في تخريج الأحكام وتطبيقها ومعرفة مناطاتها وسبر أغوار عللها، وفي ذلك تقول الوثيقة «كل ما في كتبي أحكام شرعية من باب الحكم المطلق، وليست من باب الحكم على المعينين، والفرق بينهما أن الحكم المطلق هو حكم على الفعل، أما الحكم على المعين فهو حكم على الفاعل» ومن ثم لا بد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع. ويدخل في التكليف الذي هو خطاب الله للمكلف، القدرة والاستطاعة، فمن لم يكن قادرا ولا مستطيعا فإنه لا يكون مكلفا، القدرة هي مناط التكليف، وحكم الجهاد والصدام مع الحكومات لتغييرها هو تكليف لا بد من تحقق شروطه، وأهمها: القدرة والاستطاعة، فإذا لم تتوافر سقط التكليف، وكان في الصبر مندوحة. وهنا تنبه الوثيقة إلى ما يمكن أن نطلق عليه «فقه الاستضعاف» فكل مَن لم تكن له منعة تحميه فهو مستضعف. ونبهت الوثيقة إلى ما يمكن أن نطلق عليه «السياق الزماني لتطبيق الأحكام الشرعية» فالفقه السلفي تأسس لدولة منتصرة كبيرة، كان الإسلام فيها هو الحاكم بلا منازع، وكانت له السيادة العليا والحاكمية المطلقة، أما اليوم، فالمسلمون في وضع مختلف فهم كالأيتام على موائد اللئام، ومن ثم لابد من اعتبار الواقع في التعامل مع اجتهادات الفقهاء القديمة، ومن ثم -أيضا- لابد من الاحتياط في تنزيل نصوص السلف التي كتبت لواقع مغاير على واقعنا المعقد اليوم، وليس كل أحد يمكنه تنزيل تلك النصوص، فذلك يحتاج إلى خبير بفقه النصوص والواقع «فلا يجوز لغير المؤهلين شرعا من أفراد الجماعات الجهادية تنزيل ما في بطون كتب السلف من أحكام مطلقة على واقعنا الحاضر». أذكر أن أحد الفقهاء الكبار استخدم تعبير «الاختيارات الفقهية» والتي تعني ترجيح البدائل الفقهية والموازنة الدقيقة بينها، واختيار ما يناسب الزمان والمكان الذي يواجهه الفقيه، وهذا ما جعل «ابن القيم» في كتابه الكبير «إعلام الموقعين عن رب العالمين» يقول «تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال»، والفتوى هي تطبيق حكم شرعي عام على واقع معين ومحدد. قواعد التفكير الجديدة التي ترسيها الوثيقة هي «قواعد في المنهج وأصول التفكير» التي تستند إلى أصول الفقه والقواعد الفقهية العامة، وكانت الحركة الجهادية قد اقتحمت علوم العقيدة والفقه وتوسعت فيهما توسعا كبيراً من دون القواعد التي تضبط فهم العقيدة والفقه معا في تطبيقهما على الواقع، ومن ثم أصبحت هناك فجوة بين علم واسع ومهول بالنصوص وفقر هائل في المعرفة بالواقع والقواعد التي تصل بينه وبين النص عبر الاجتهاد. نحن أمام تحول مهم ترسيه وثيقة «ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم» في طريقة تفكير التيار الجهادي يتمثل في المزاوجة بين النص والواقع وأخذ معيار القدرة والممكن في الحسبان، وهو أول الطريق نحو تحول تلك الحركة والتيار إلى الإصلاح، بدلا من الثورة ومن «اليوتوبيا» والخيال إلى الواقع والمعاش.
تحقيقات ودراسات
المراجعات وبناء قواعد جديدة للتفكير
27-11-2007