Ad

يتجلى العنصر الإقصائي في الخطاب الديني المعاصر في ثلاثة مظاهر بارزة هي: النزعة الذكورية التسلّطية التي تغيّب المرأة، والنهج التكفيري - التخويني الذي يشكك في عقيدة الآخر ونواياه، والنظرة الاتهامية التآمرية التي ترى أن «الغرب» عدو متربص لا يأتي منه «خير»، وهو المسؤول الأكبر عما يعانيه المسلمون من أوضاع مزرية وتخلف ومآس ٍوفشل في التنمية والإنتاج والتعليم.

أوضحنا في مقالنا السابق عن «تجديد الخطاب الديني: الأزمة المستعصية في عصرنا»، عجز الخطاب الديني السائد عن تحقيق مهماته الرئيسة الأربع المتمثلة في:

1 - تقديم صورة حضارية إيجابية عن الإسلام والمسلمين للعالم المعاصر.

2 - تعميق وتفعيل المشترك الديني الوطني بين أبناء المجتمع الواحد.

3 - حماية مجتمعاتنا ضد أخطار التطرف وتحصين شبابنا ضد ثقافة «القاعدة».

4 - الإسهام في عمليات التنمية والتحول الديموقراطي وتعزيز حقوق الإنسان.

ويبقى أن نقول ونؤكد أن هذا العجز المزمن لا يتعلق بالإمكانات ولا بقلة الموارد والدعم ولا بضعف تمكين ونفوذ وتغلغل الدعاة والوعّاظ والرموز الدينية، بل العكس هو الواقع والحاصل، فالإمكانات والموارد والميزانيات المرصودة لهؤلاء هائلة وضخمة، والدعم السياسي والشعبي كبير ومتزايد، وانتشار الدعاة وهيمنتهم في ازدياد كل يوم عبر منابر المساجد والفضائيات وكل المناشط والمؤسسات المجتمعية، لدرجة أن شهر رمضان الفضيل، أصبح موسماً رائجاً للدعاة والمشايخ لا ينافسهم فيه أحد، ومع ذلك فإن هذا الخطاب الديني العليل لم يستطع تحقيق أي هدف معرفي أو أخلاقي أو سلوكي أو تنموي أو حضاري نفخر به ونتميز به بين شعوب العالم المعاصر، والسؤال المحيّر والمقلق: لماذا هذا العجز؟ وإلى متى يستمر الخطاب الديني عامل تأزيم للمجتمعات الإسلامية؟... الإجابة تكمن في تحليل هذا الخطاب وفي تفكيك مضامينه لنكشف أن هذا العجز وذلك الخلل كامنان أساساً في بنية الخطاب الديني: أي أن العجز، عجز أو خلل بنيوي عميق وليس مجرد خلل شكلي يتعلق بالإفادة من معطيات الحضارة في التقنيات الحديثة، كما يتوهم بعض أصحاب الخطاب الديني، بل الخطاب الديني أفاد من تقنيات الاتصال، وبشكل غير حضاري في مكبرات الصوت التي تثير ضجيجاً مزعجاً تمنّى بعضهم انقطاع الكهرباء حتى يريح ويستريح، مما جعل وزارات الأوقاف والشؤون الدينية في مختلف الدول العربية تنبّه الخطباء والأئمة إلى ضبط صوت المكبرات، لكن ذلك من دون جدوى، إلا أن أحداً لا ينافس مجتمعاتنا في إساءة استخدام التقنية الغربية الحديثة، انظر كيف فعل متطرفونا بالشبكة الإلكترونية: احتلوها وشحنوا الآلاف من مواقعها بأقبح ما في الإنسان من غرائز أولية ضد أخيه الإنسان المختلف معه مذهباً أو ديناً أو رأياً سياسياً. وخلافاً لما يتصوره البعض من أن تجديد الخطاب الديني يتحقق بتجديد مضامين هذا الخطاب ليشمل قضايا المجتمع المعاصرة. قضية التجديد في تصوري أعمق وأبعد وأشمل، إنها قضية تتعلق بـ «بنية» الخطاب نفسه و«تركيبته» الداخلية، أقصد بها «الفكر الإقصائي» الذي يشكل النبع الأساسي الذي يرتوي منه هذا الخطاب ويحكم بنيته وتركيبته ومفاصله الأساسية، سواء كان خطاباً تقليدياً سلفياً أو «صحوياً» معاصراً في ما يسمى «الإسلام السياسي».

النزعة والروح الإقصائية سمتان ملازمتان باستمرار للخطاب الديني بكل أشكاله ومستوياته ومظاهره، سواء كان دروساً دينية أو تعليماً دينياً في مدرسة أو معهد أو كلية أو كان فتاوى أو حواراً عبر الفضائيات أو المواقع الإلكترونية.

«الإقصاء» عنصر أساسي لا ينفك عن الخطاب الديني، ويتجلى هذا العنصر الإقصائي في الخطاب الديني المعاصر في ثلاثة مظاهر بارزة هي:

1 - النزعة الذكورية التسلّطية: الخطاب الديني بوجه عام، خطاب ذكوري، يحتكره الرجال وحدهم، بل حتى في أخص خصوصيات المرأة أو أسرارها.

المرأة في الخطاب الديني كائن مغيّب باستمرار، على الرغم من أن الحديث عنها دائما في الفتاوى والوعظ، إما أن يحذّر منها ومن فتنتها وغوايتها أو شرورها، أو يخشى عليها فيفرض عليها حبساً اجتماعياً يعزلها عن تيار الحياة والمناشط المجتمعية، وكما يقول - الذايدي - «هناك حساسية مرضية تجاه المرأة وتجاه أي ظهور لها في الحياة العامة، بل وتجاه حقوقها الأولية، فهي كائن غير مرئي في السياسة والتعليم والصحافة والقضاء، وكل مجالات الحياة العامة والمجتمع يعيش في ظل جدران عالية من الفصل العنصري»، والمرأة في الخطاب الديني، كائن مُدان - دائماً - حتى لو كانت الضحية، ففي حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي، تكون المرأة هي الملومة، أما المعتدي الرجل فمعذور، لأنه لم يستطع مقاومة الإغراء والفتنة، وقد شبه مفتي أستراليا المعزول، المرأة باللحم المكشوف الذي يغري القطط بالتهامه وقال «هل نلوم القطط؟!».

المرأة في الخطاب الديني، كائن عاطفي لا يحسن التصرف والتدبير، فهي بحاجة إلى وصاية الرجل (الولي) الذي يضبط كل تصرفاتها وسلوكياتها وقراراتها بحكم كونه «العاقل» المتبصر الذي يكبح جماحها وانقيادها إلى عاطفتها، ولايزال الخطاب الديني، يمارس ويدعو إلى التمييز ضد المرأة في حقها كمواطنة في الوصول إلى المناصب القيادية، خصوصاً «القضاء»، فلا توجد حتى الآن إلا دولة خليجية واحدة هي البحرين سمحت للمرأة بالقضاء.

كما أن الخطاب الديني ضد منح المواطنة - المتزوجة من غير المواطن - حق نقل جنسيتها إلى أطفالها وزوجها، ولا يزال الخطاب الديني في بعض المجتمعات الخليجية ضد تدريس «التربية الوطنية» للطالبات، وضد قيادة المرأة للسيارة على الرغم من إنفاق ملياري ريال سنويا على السائقين الأجانب!! ولايزال الخطاب الديني السائد متمسكاً بأن «ديّة» المرأة نصف دية الرجل بحجة «إجماع» الفقهاء، وهو يخوض معركة «ختان الأنثى» ضد الدولة التي منعته ويحرض ضدها!! والخطاب الديني مع الرجل في أن يخدع زوجته ويكذب عليها إذا تزوج «بأخرى» بحجة أن الكذب مباح في هذه الحالة!! ترى من يخدع زوجته هل يؤتمن إذا تولى منصباً قيادياً؟! فمن يخدع زوجته يخدع الناس أيضاً، والمرأة المخدوعة تنشئ عائلة تعيسة وفي النهاية أمة تعيسة!!

بصفة عامة، الخطاب الديني السائد يتوّجس من أي أمر يتعلق بالمرأة من يوم مجيئها إلى هذه الحياة حتى مماتها، وهو يتمثل القول المأثور «للمرأة عشر عورات، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة وبقيت العورات التسع حتى إذا ماتت ستر القبر عوراتها الباقية».

2 - النهج التكفيري - التخويني: الخطاب الديني بحكم كونه خطاباً مذهبياً تعصبياً يرى أنه يملك الحقيقة «المطلقة» سواء في ما يتعلق بـ «العقيدة» أو بـ «الرأي» الفقهي والسياسي، ولذلك يشكك في عقيدة الآخر ونواياه، لأن العقيدة الصحيحة واحدة والفرقة الناجية واحدة، والآخرون «عقيدتهم» فيها انحراف أو ضلال أو ابتداع، ولايزال جانب كبير من الخطاب السلفي، خطاباً تعصبياً تكفيرياً ضد «الشيعة» و«الصوفية»، وبالأمس القريب، قامت قيامة السلفيين في الكويت ضد الدكتور محمد عبدالغفار الشريف، لأنه لم يقل بشرك من طاف بالقبر، وقام انتحاري بتفجير نفسه في كراتشي وسط آلاف يحتفلون بالمولد النبوي الشريف فأصاب المئات، وإذا كان جانب من الخطاب السلفي «تكفيرياً» فإن جانباً من الخطاب «الصحوي» تخويني، مثاله: الخطاب التخويني لـ «حزب الله» و«حماس» وجماعات الإسلام السياسي، وبعض كتاب «الصحوة» يخوّنون المخالفين لهم، خصوصاً من «الليبراليين» والويل إذا ناظرت «صحوياً» عبر الشاشة، فإنه إذا عجز وأفلس أخرجك من الملة والوطنية واتهمك بأنك «عميل» ولا يتورع هؤلاء عن استغلال بيوت الله في تكفير وتخوين المخالفين، ولقد كنا نظن أن مجتمعاتنا فضلاً عن خطابنا الديني قد تجاوزت شعارات «التخوين» و«التكفير» و«العمالة» التي كانت شائعة في الستينيات أيام المد الناصري، حتى جاءت خطب هؤلاء التحريضية لتذكرنا بها وتعيدنا إليها ولتبرهن أن خطابنا الديني يستعصي على العلاج.

«التخوين» إفراز لعقلية مريضة يحتكر صاحبها «الدين» و«الوطنية» وينفيهما عن الآخرين في ادعاء شمولي تسلطي وأناني يعبر عن مدى الإفلاس والعجز الفكري لصاحبها، وقد تخلصت منها كل شعوب المعمورة ما عدانا، وتلك هي مأساة الخطاب السائد ويبدو أن «ماكينة»... «التخوين» والمخونين لن تتوقف إلا بصاعقة تدويها على رؤوسهم.

3 - النظرة الاتهامية التآمرية: الخطاب الديني عامة، مسكون بأوهام وهواجس التآمر العالمي، يرى أن «الغرب» عدو متربص لا يأتي منه «خير» وهو المسؤول الأكبر عما يعانيه المسلمون من أوضاع مزرية وتخلف ومآس ٍوفشل في التنمية والإنتاج والتعليم، ولذلك يشحن شبابنا ويملأ نفوسهم كراهية ويزين لهم أن يصبحوا مشروعات انتحارية عدمية بحجة «إذا كان الغرب يملك قنابل نووية فنحن نملك قنابل بشرية»!! هذا الفكر الإقصائي الذي يحكم الخطاب الديني المعاصر هو الذي لايزال يعوق المسلمين من تقديم خطاب صحي ناضج وعقلاني، متصالح مع الذات ومع العالم أيضاً.

* كاتب قطري