مزامير أولبرايت!

نشر في 13-04-2008
آخر تحديث 13-04-2008 | 00:00
 صالح القلاب

إن الذي قالته أولبرايت في «مزاميرها»، بشأن تقسيم العراق غدا عميقاً، وحرب التطهير الطائفي والمذهبي متواصلة ومستمرة رغم كل التغني بالوحدة الوطنية التي لم تكن حاضرة في التاريخ الحديث، إلا في العهد الملكي الذي أنهاه الانقلابيون في عام 1958 وفي عهد صدام حسين.

في مذكرتها إلى الرئيس الأميركي، الذي لم يُنتخب بعد، قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت في ما يشبه المواعظ: ثمة ثلاثة كوابيس قد تلازم رئاستك، أولاً: يمكن أن تصبح المنطقة التي يسيطر عليها السُنّة في العراق، نظراً لافتقارها إلى المؤسسات الحاكمة الشرعية، ملاذاً آمناً ومنطقة تدريب وتجنيد لـ«القاعدة»، ثانياً: قد يؤدي خنوع الحكومات العراقية المقبلة أمام إيران التي تزداد قوة إلى تقاسم المعلومات الاستخباراتية والتعاون العسكري معها الأمر، الذي سيهدد إسرائيل. وثالثاً: قد يصبح هذا البلد شديد التصدع بسبب النزاع «الداخلي» بحيث يشعل حرباً تشمل المنطقة كلها.

وخلصت أولبرايت في هذه «المذكرة» التي تَنْشرُ أجزاءً منها صحيفة عربية تصدر من لندن، والتي ستصدر في كتابٍ في فترة لاحقة إلى القول: قد يكون السبيل الوحيد للحفاظ على العراق هو السماح بانقسامه لا بشكل رسمي أو كامل بل بمقدار كافٍ يتيح إنشاء حيزٍّ للشيعة في الجنوب وللأكراد في الشمال وللسُّنّة في ما بين الأكراد والشيعة... يجب أن يحدث ذلك نتيجة لسياسة معلنة لأن العراقيين قطعوا شوطاً نحو التقسيم!!

والحقيقة أن هذا الذي قالته أولبرايت في «مزاميرها» التي جاءت في هيئة مواعظ ووصايا إلى الرئيس الأميركي، المقبل الذي لم ينتخب بعد وارد ومحتمل، فالتقسيم في نفوس العراقيين غدا عميقاً وحرب التطهير الطائفي والمذهبي متواصلة ومستمرة رغم كل التغني بالوحدة الوطنية التي لم تكن حاضرة في التاريخ الحديث، إلا في العهد الملكي الذي أنهاه الانقلابيون في عام 1958 وفي عهد صدام حسين، حيث كانت هذه الوحدة تفرض بالقوة وبالحديد والنار وبالمذابح والمقابر الجماعية.

والمشكلة هنا هي أنه إذا انسحب الأميركيون الآن أو غداً أو بعد غد فإن التقسيم والانقسام الذي بشَّرت به أولبرايت في مزاميرها هذه سيكون تحصيل حاصل، ثم إن هم لم ينسحبوا فإن هذا التقسيم سيتجذر وسيتعمق وهو سينتقل في كلتا الحالتين إلى دول الإقليم كلها، حتى بما في ذلك إيران المفروضة وحدتها الهشة بالقوة وعلى الطريقة «الصدَّامية»... فهناك سُنَّةٌ ملزمون بالخضوع والخنوع لدستورٍ ينص على أن دين الدولة الإسلام وفقاً لـ«المذهب الجعفري الإثني عشري» وهناك الأكراد الذين علقتهم الثورة بعد انتصارها على أعمدة الكهرباء في كرمنشاه وهناك البلوش والبختيار والتركمان والآذاريون... والعرب الذين يُحرم عليهم الكلام.

يجب أن تنسحب القوات الأميركية، إن عاجلاً أو آجلاً، فهي قوات محتلة والاحتلال مصيره الزوال مهما طال أمده، لكن يبقى أن الولايات المتحدة، بغض النظر عن حزبية الإدارة الحاكمة وسواء كانت جمهورية أو ديموقراطية، هي التي تتحمل مسؤولية هذا الذي يحدث في العراق والذي سيحدث والمسؤولية المقصودة هنا ليست المسؤولية الأخلاقية فقط... إنها الأخلاقية والسياسية والمادية والمعنوية وكل شيء.

في هذه الأيام، حيث مرَّت خمسة أعوام على سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق، تطفح الصحف العربية بالتحليلات والبكائيات، ولقد وجدها حزب «الكوبونات النفطية» فرصة لذرف الدموع السخية الحارة على ذلك التمثال، الصنم الذي أسقطته دبابة أميركية وسحلهُ في الشوارع العراقيون الذين كانوا يساقون رغم أنوفهم ليملؤوا ساحات المدن العراقية أهازيج للقائد الملهم المفروض بالقوة كجنرال فوق كل الجنرالات، وكروائي فوق كل الروائيين، وكشاعر فوق كل الشعراء وكعوّامٍ فوق كل العوامين!

لاشك في أن الغزو والاحتلال مصيبة كبرى، ولكن كان يجب أن يتذكر النائحون على «مبعوث العناية الإلهية» وعهده غير الميمون أن أسوأ «النواطير» هو الذي يستدرج الدُّب إلى كرمه، وأن أسوأ الحكام هو الذي يشرع أبواب بلده للطامعين، وهذه هي مواصفات صدام حسين الذي يبكيه حزب «الكوبونات النفطية» في هذه الأيام بالدموع السخية.

* كاتب وسياسي أردني

back to top