نفوذ الإعلام المرئي بالدرجة الأولى لايزال من المساحات غير المستغلّة على الصعيد الحقوقي، فجزء كبير من إعلامنا، ينأى بنفسه عن المساهمة في تأصيل ثقافة حقوق الإنسان.السجون والمعتقلات في بلدان عديدة من عالمنا العربي، تندرج ضمن «معالم» البلد الأساسية. ويكفي ذكر اسم سجن أو معتقل ما في البلد المعني، كي يثير خليطاً عجيباً من مشاعر الرهبة والخوف والألم لدى أبنائه. مع ذلك فإن سألنا مواطنا مغربيا مثلاً، عن سجني «تدمر» أو «صيدنايا» في سورية، الأكثر «شهرة» فيما يتعلق بتاريخ طويل ومستمر للاعتقال السياسي وأهواله، فعلى الأغلب لن يثير الإسمان أي صدى لديه. وبالمثل ستكون النتيجة إن سألنا مواطناً سورياً عن سجون مصرية أو تونسية... إلخ. أما إن تحدثنا عن سجني أبو غريب (في عهد الاحتلال الأميركي وليس قبله) وغوانتانامو، فمن غير المحتمل أن مواطناً عربياً من المحيط إلى الخليج لم يسمع بهما وبما يرتكب بين جدرانهما من فظاعات وانتهاكات.
أما لماذا وكيف؟ فلأن «انتهاكات حقوق الإنسان» من العناوين غير الجذابة لإعلامنا العربي المرئي منه بصفة خاصة، مع استثناءين مهمين:
فضح تلك الانتهاكات المرتكبة على أيدي الإمبريالية الأميركية! وهذه تتصدر عناوين الأخبار في بعض الدول «الآنتي-أميركية» و«المعتدلة» على السواء، وإن بنسب متفاوتة.
أن «تسوء» العلاقة - أو أنها بالأصل سيئة - ما بين الدولة صاحبة الوسيلة الإعلامية والدولة مرتكبة الانتهاك، فيصبح لهذا الأخير مكاناً بارزاً في الوسيلة المذكورة.
فيما عدا ذلك، خاصة بالنسبة لانتهاك الحقوق المدنية والسياسية، فإن خبراً صغيراً سريعاً قبل أو أثناء الأخبار المنوعة، هو نصيب تلك الانتهاكات وضحاياها. لا ينطبق ذلك على أي حال، بالنسبة لعدد قليل من الدول العربية صاحبة الهوامش الأوسع في الحريات ومن بينها تلك الإعلامية.
يعطي هذا الانطباع بأن الانتهاك المرتكب بأيد «غريبة» لحقوق المواطن العربي، هو ما يستحق الإدانة والاستنكار والمتابعة الإعلامية، بينما الانتهاك «الداخلي»، فهو شأن «سيادي» للدولة المعنية، يتم التطرق إليه بخجل وحذر. وتالياً فإن إنسانية ومواطنية ضحية الانتهاك غير معترف بها إلا في مواجهة «الغريب».
ومن دواعي الملل تكرار أن تلك إحدى وسائل توجيه غضب الجمهور ونقمته إلى «الخارج» عوضاً عن التبصر في أحواله البائسة على الصعيد الداخلي. لكنها أيضا إحدى وسائل الحفاظ على حسن العلاقات بين الأنظمة العربية المختلفة، ومراعاة لخواطرها بعدم «نشر غسيلها الوسخ» والتدخل في شؤونها الداخلية.
نفوذ الإعلام المرئي بالدرجة الأولى لايزال من المساحات غير المستغلة على الصعيد الحقوقي. لايزال جزء كبير من إعلامنا، ينأى بنفسه عن المساهمة في تأصيل ثقافة حقوق الإنسان، ويساهم في الحفاظ على المسافة التي تفصل الحركة الحقوقية العربية وتأثيرها عن أجزاء كبيرة من مجتمعاتها. يحصل ذلك عبر أمور عدة تجتمع فتجعل من نبأ الانتهاك نبأً ثانوياً لن يحظى أبداً «بشرف» الحصول على مرتبة «عاجل»:
أولاً، خطاب تسفيه الشرعية الدولية وإفراغها من أي محتوى أو قيمة. في المقابل، معظم الدول العربية وقعت العديد من المعاهدات الخاصة بحماية الحقوق والحريات بمنزلة إجراء بروتوكولي لم يجد له أي صدى على صعيد التطبيق العملي. لا يهتم الإعلام على سبيل المثال، بأحكام وقرارات مدهشة تصدر عن أجهزة حقوق الإنسان الدولية والإقليمية كالمحكمة الأوروبية أو المحكمة الأميركية لحقوق الإنسان، طالما أن القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين لم تطبق، والأمم المتحدة لم تحم العراق من الاحتلال!
ثانياً، الترتيب الذي تحتله أخبار انتهاكات حقوق الإنسان التي نادراً جداً ما تأتي في الصدارة. وكأنما لترسيخ الشعور السائد بأن تلك الانتهاكات تنتمي للعادي والطبيعي من الممارسات من جهة، وبأننا ربما يجب أن نخجل من ذكرها مقارنة بما يحدث على أيدي قوى الاحتلال أو غضب الطبيعة!
ثالثاً، التعرض لخبر الانتهاك كحدث مجرد لا ماض له ولا خلفية ولا سياق. هذا مع عدم وجود إعلام محلي مستقل - غالب- ينقل صورة موضوعية وصادقة للحدث وسياقه.
قد تقع على الحركة الحقوقية العربية مسؤولية جزئية في ضعف التوجه المكثف للإعلام وإيجاد قنواتها الخاصة ضمن تلك الوسائل من أجل إيصال رسالتها، الإخبارية منها كما الثقافية، مع الإقرار بصعوبة هذه المهمة لعوامل تتعلق بالحركة ذاتها وبوسائل الإعلام العربية على السواء.
أخيرا وعلى هامش الحديث، فقد استوقفتني مقدمة مقال لأحد الكتاب العرب أخيراً، يبحث فيه العلاقات السورية - السعودية المتأزمة، مشيراً إلى أنه «... لو فتحت الصحافة السعودية صفحاتها للمعارضة فقط لامتلأت بالنقد والصور الكئيبة والتجاوزات مما حصل ويحصل في بلادنا الحبيبة هناك، لو فعلنا ذلك سنجرح إخواننا السوريين، وحديثي عن المواطن العادي الذي يكفيه ما هو فيه...».
وأنا أقول، إن فتح الإعلام المرئي والمقروء لما يحصل من انتهاكات بحق المواطنين العرب من قبل أنظمتهم، لن «يجرح» هؤلاء المواطنين أو يؤذي مشاعرهم أو يحط من كرامتهم. العكس هو الصحيح، وما يجرح ويؤذي هو التعاطي بكثير من «السياسة» وقليل من «حقوق الإنسان»، مع ما يتعرض له المواطن في بلده، وكأن ذلك يجعل منه إنساناً كامل الحقوق والحرية... والسعادة!
*كاتبة سورية