ليس من الحكمة أن يُعالج الخطأ بخطأ لأن ذلك سيؤدي لا محالة إلى نتائج سلبية، لذا فإن إصرار بعض أعضاء مجلس الأمة على إعادة إقرار قانون زيادة الرواتب خمسين دينارا الذي أرجعته الحكومة في وقت سابق، من دون دراسة متأنية وكرد فعل على خطأ الحكومة في كيفية تعاملها مع زيادة الرواتب، يعتبر خطأ آخر لا يقل سوءا عن خطأ الحكومة، وسيترتب عليه نتائج مالية سلبية على الميزانية العامة للدولة في المدى القريب لأن السياسات العامة مترابطة يؤثر كل منها في الآخر ويتأثر به، الأمر الذي سينعكس سلبا على المستوى المعيشي للمواطنين.

Ad

لقد صور بعض أعضاء مجلس الأمة إقرار زيادة الخمسين دينارا وكأنه الحل السحري الذي سيقضي حالا على الارتفاع الجنوني للأسعار وغلاء المعيشة وسيحسن من مستوى معيشة المواطنين، وهذا وهم كبير يتم تسويقه على الناس، فلا زيادة الخمسين ولا حتى المئة والعشرين دينارا التي أقرتها الحكومة سيقضيان على الغلاء أو سيحسنان من مستوى معيشة المواطنين ما لم يربطا بحزمة من السياسات الاقتصادية المتكاملة وطويلة المدى.

فالزيادة المطردة في الأسعار وغلاء المعيشة سرعان ما ستلتهمها أي مبالغ تضاف اعتباطا إلى الراتب مهما كان مقدارها، وستصبح أي زيادة وكأنها لم تكن. بل إنني لا أبالغ إن قلت إنه في ظل غياب سياسات اقتصادية واجتماعية حكومية واقعية ومتكاملة فإن الوضع المعيشي للناس قبل الزيادة، مهما كان مقدارها، سيكون أفضل منه بعدها!! إذ لا فائدة من زيادة نسبتها %10 إذا كانت الأسعار قد ازدادت بنسبة %200 وهي مرشحة لمزيد من الارتفاع أيضا!!

إن سياسة مكافحة الغلاء وارتفاع الأسعار تتطلب معالجة هادئة وطويلة المدى وتأخذ في الاعتبار عوامل اقتصادية كثيرة بعضها فني دقيق، ومن المؤسف أن يتم تجاهل كل ذلك وتسويق وهم زيادة الخمسين «السحرية» للناس، ثم تركهم بعد ذلك يعانون الارتفاع المستمر للأسعار وتكاليف المعيشة الباهظة. هذا لا يعني أننا ضد زيادة الرواتب، بل بالعكس فمن المفروض أن تتم المراجعة الدورية لنظام الرواتب والأجور في الدولة وزيادتها بما يتناسب مع زيادة التضخم وغلاء المعيشة، ويكون ذلك من خلال حزمة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتكاملة التي يكون من ضمنها وضع حد للنهم الاستهلاكي البذخي والتشجيع على الادخار وترشيد الاستهلاك. كما يجب أن تراعي هذه السياسات التفاوت الكبير في الدخل ومستوى المعيشة بين الفئات المختلفة للسكان، حيث إن هنالك فئات من المواطنين من ذوي الدخل المحدود تعاني أكثر من غيرها من الفئات الاجتماعية من ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وليس من العدالة بمكان أن يكون مقدار الزيادة لمن راتبه بضع مئات هو نفسه لمن راتبه بضعة ألوف من الدنانير!!

لذا فإننا لسنا بحاجة لزيادة رواتب غير مدروسة يلتهمها السوق بسرعة، ومن الممكن أن تكون لها آثار اقتصادية واجتماعية عكسية على المواطن في المدى القصير، بل نحن في أمس الحاجة لسياسات عامة اقتصادية واجتماعية مدروسة تعتمد على البيانات والأرقام والإحصاءات الدقيقة وتأخذ في الاعتبار ترابط السياسات العامة، ولا تخضع لردود الأفعال ولا للمصالح الانتخابية، وتكون فاعلة وتحقق مستوى معيشة مرتفع للمواطنين وللمقيمين على المديين القصير والطويل.