ثمة أسباب لنجاح نابليون الفرنسي، وتعثّر نابليون الأميركي في العراق منها: لم يكن في العراق مثيل لمحمد علي باشا، وشيوخ كحسن العطار ورفاعة الطهطاوي، ولم تكن فرنسا مكروهة كراهية شديدة من المصريين والعرب، كما كانت أميركا في عام 2003، ولم يكن في مصر ثروة بترولية هائلة، لكي تُتهم فرنسا بأنها جاءت لسرقة هذه الثروة، كما اتُهمت أميركا في العراق.تمرُّ هذه الأيام الذكرى الخامسة لسقوط حكم البعث وعهد صدام حسين في العراق. وللتذكير، فإن ما سقط في التاسع من إبريل 2003 ليس بغداد كما يردد الإعلام العربي وكما تردد بعض وسائل الإعلام الغربي. فبغداد بقيت وهي باقية ولم تسقط ولكن ما سقط حقيقة هو النظام السياسي. وكان هذا هو الهدف الرئيسي لغزو العراق، إذ كان نظام صدام حسين من العتو وقوة الموت والجبروت والطغيان ما لا يستطيع حزب سياسي، أو جيش وطني، أو تدخل عربي، أو إقليمي أن يسقطه. لقد بُني عهد صدام حسين على أساس أنه سيبقى إلى الأبد. وكان من هم حول صدام وفي حاشيته، قد تأكدوا أن هذا النظام باقٍ بقاء المطلق. وقد تلبّس صدام وتماهى في شخصية الرب. وأصبح هو المطلق الوحيد في العراق وربما في العالم العربي كذلك، خصوصا بعد حرب الخليج الأولى (1980-1988). وقال المصلح السياسي الشيخ إياد جمال الدين مرة إن الأسماء الحسنى لصدام حسين في العراق كانت أكثر من الأسماء الحسنى لله.
العراق حالة عربية نادرة
أصبح العراق في النصف الثاني من القرن العشرين وبعد ثورة 1958 جمهورياً بعد أن كان ملكياً. وقال الثوار العسكر العراقيون إنهم جاؤوا لكي يحققوا الحرية والديموقراطية والعدالة. ولكن تبين بعد ذلك أن الثورة سياسية وليست شاملة. وأن الفساد السياسي والإداري أصبح أكبر حجماً مما كان عليه في العهد الملكي، ولم تفلح أغنية أم كلثوم (بغداد يا قلعة الأسود) في إقناع الشعب العراقي بجدوى الثورة على كل الصُعد، رغم أن قائد الثورة (عبدالكريم قاسم) كان قائداً نزيهاً وشريفاً ومخلصاً، ولكن البطانة من حوله كانت مهترئة، وكان العراق غير مستعد للتغيير الشامل. وبعدها بسنوات (1963 ثم 1968) استولى حزب البعث على الحكم في العراق، وظل يحكم العراق طيلة خمسة وثلاثين عاماً (1968-2003). والمفارقة السياسية الكبرى التي نخرج بها من هذه الفترة، أن الفساد الإداري والمالي والسياسي، قد فاق ما كان يتمُّ في العهد الملكي (1921-1958). وكأن العراقيين «خرجوا من تحت الدلف ليقفوا تحت المزراب»، كما يقول المثل الشعبي. وفي الفترة الممتدة من عام 1958 إلى الآن قُتل من العراقيين ما يزيد على أكثر من نصف مليون ضحية. وهو رقم هائل في القاموس السياسي العربي وغير مسبوق. ففي كل الحروب التي خاضها العرب مع إسرائيل خلال القرن العشرين والحادي والعشرين لم يفقد العرب عُشر هذا الرقم.
حملة نابليون الثانية على العراق
تُذكّرني حملة الحلفاء العسكرية على العراق عام 2003، بالحملة الفرنسية على مصر عام 1798، التي قادها نابليون بنفسه، لأهمية هذه الحملة بالنسبة لفرنسا العلمانية الجديدة التي أرادت تصدير مبادئ الثورة الفرنسية بعد تسع سنوات من قيامها عام 1789 إلى الشرق، كما أرادت الثورة الإسلامية 1979 تصدير الثورة إلى العالم العربي. ولكن الرئيس بوش لم يقد حملته (حملة حرية العراق) بنفسه. وهي الحملة التي أطلق عليها الإعلام العربي الاستعمار الجديد، أو «تغريب الشرق»، كما سبق وأطلق المماليك على حملة نابليون «حملة الكفر والبهتان»، في حين أن بعض الشيوخ المتنورين في مصر، تعاطفوا مع هذه الحملة، وأدركوا مضارها وفوائدها. ولكنهم رجحوا الفوائد على المضار، إذ إنها أيقظت مصر والعالم العربي من السبات العميق، الذي كان فيه، ونهض المصريون والعالم العربي من بعدهم على صوت مدافع نابليون، التي أعادت لهم الوعي بالذات والوعي بالحضارة الجديدة القادمة من الغرب. وقد عبّر عن هذا كله الشيخ حسن العطار (1766-1835) شيخ الأزهر في عام 1830، الذي يعتبر رائداً من رواد النهضة الحديثة في مصر بقوله: «إن بلادنا لا بُدَّ أن تتغير، ويتجدد بها من العلوم ما ليس فيها». وكان الشيخ العطار، صوتاً عالياً بالمطالبة بإصلاح التعليم بالأزهر، وهو الذي هرب من القاهرة إلى الصعيد خوفاً من بطش نابليون، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى القاهرة، بعد أن تأكد من هدف الحملة الفرنسية على مصر، وانضم إلى المطالبين بالإصلاح، وأصبح الساعد الأيمن لمحمد علي باشا في بعث نهضة مصر. ومشى تلميذه رفاعة الطهطاوي (1801-1873) على نهجه، ونادى بوجوب التغيير لكي تستيقظ «سائر أمم الإسلام من نوم الغفلة، وتبحث عن العلوم البرانية والفنون والصنائع». (محمد عمارة، العرب والتحدي، ص203).
وهكذا تركت الحملة الفرنسية على مصر بصمتها الحضارية والنهضوية، وغادرت مصر في عام 1801.
نابليون الأميركي
يُخيّل إليَّ، أن جورج بوش الذي لقّبته بعض وسائل الإعلام العربي والفرنسي -على وجه الخصوص- بأنه «نابليون الأميركي»، كان يسعى إلى تخليد اسمه في تاريخ السياسة الأميركية من خلال حملته (حرية العراق). وكان يسعى إلى أن يكون نابليون أميركا بالنسبة للشرق الأوسط. ولكن جورج بوش، قاد حملته على العراق في ظروف سياسية وثقافية واجتماعية سيئة جداً. ولم تكن أرض العراق مهيأة كأرض مصر في نهاية القرن الثامن عشر للنهضة، التي كانت تتمثل في الحملة على العراق بإسقاط الحكم، وتولّي المعارضة الحكم ونشر الديموقراطية، ومن ثمَّ تصدير مبادئ حملة (حرية العراق) إلى العالم العربي كله. ولكن هذه الحملة لم تفشل بقدر ما تعثّرت، وبقدر ما دفعت أميركا ثمناً غالياً جداً من مالها وأبنائها (تصرف أميركا حوالي 200 مليون دولار يومياً، أو 12 مليار دولار شهرياً على هذه الحملة، منذ خمسة أعوام إلى الآن). وما كان للحملة على العراق أن تتعثر هذه العثرات، وما كان كذلك أن تكون مكلفة إلى الحد من المبالغ الطائلة، لولا أن أنظمة جوار العراق، آلوا على أنفسهم أن يحمّلوا أميركا ثمناً باهظاً لهذه الحملة، ليس حباً بصدام حسين المعزول، وليس حباً بالعراق المنكوب، ولكن لكي يعطوا أميركا درساً تاريخياً لا تنساه، وهو عدم الإقدام على تجهيز حملة جديدة ضد أنظمة الجوار العراقي، مشابهة للحملة على العراق. فمن استبق سَلِمْ.
لماذا نجح نابليون الفرنسي وتعثّر الأميركي؟
هناك عدة أسباب لنجاح نابليون الفرنسي حضارياً وفشله عسكرياً، وتعثّر حملة نابليون الأميركي على العراق حضارياً وعسكرياً وسياسياً، منها:
1 - لم يكن في العراق مثيل لمحمد علي باشا، وشيوخ كحسن العطار ورفاعة الطهطاوي وغيرهما من شيوخ الأزهر، لكي يحتضنوا رسالة الحملة الفرنسية الحضارية على مصر. فشيوخ العراق من سُنّة وشيعة قاوموا الحملة على العراق، بل هم نظّموا الميليشيات المختلفة لمحاربتها. ولم يكن في العراق غير شيوخ معدودين، على رأسهم الشيخ إياد جمال الدين الذي يعتبر بمنزلة حسن العطار المصري، ولكنه ليس بقوة مركز الشيخ العطار الديني.
2 - لم يكن لجيران مصر في نهاية القرن الثامن عشر (السودان وليبيا)، تلك القوة العسكرية والسياسية واللوجستية، لمقاومة الحملة الفرنسية، وتدريب وتمويل وتموين الانتحاريين في العراق، كما كانت، ومازالت عليه الحال بالنسبة للعراق.
3 - لم تكن الجماعات الجهادية الإسلاموية وعلى رأسها تنظيم «القاعدة»، على هذه الدرجة من القوة والاندفاع لمحاربة الاحتلال الفرنسي، كما هي الحال في العراق بالنسبة لأميركا. كما لم تكن أيديولوجيا الإرهاب الديني منتشرة على هذا النحو، والتي لا ينفع معها القمع العسكري فقط مهما كانت قوته.
4 - لم تكن فرنسا مكروهة كراهية شديدة من المصريين والعرب، كما كانت أميركا في عام 2003 وما قبلها وما بعدها، لعدم إيجادها الحل السحري للقضية الفلسطينية.
5 - لم يكن في مصر ثروة بترولية هائلة، لكي تُتهم فرنسا بأنها جاءت لسرقة هذه الثروة، كما اتُهمت أميركا في العراق، وقبلها في الكويت. ولكن ثبتَ بعد تحرير الكويت 1991، بأن أميركا لم تسرق قطرة بترول واحدة.
* كاتب أردني