ما جرى لنجيب محفوظ من إهمال في ذكراه، ينطبق على كثيرين من مبدعينا في الأدب والفن والعلم، إذ تأتي ذكرى وفاتهم أو ميلادهم فتمر سريعاً، كأنها دفقة خفيفة من هواء، لا تهزّ شيئاً، ولا تثير أحداً. ومثل هذا الوضع يصيب تلاميذهم بإحباط شديد، لأنهم يدركون أن مصيرهم النسيان.كعادتها، مرت ذكرى ميلاد أديبنا العربي الكبير نجيب محفوظ من دون ضجيج، فقد أهملتها المؤسسات الثقافية الرسمية المصرية، ولم يهتم بها سوى القلائل، وكأن الرجل كان عابراً على الدنيا، لم يحفر بها أي علامة، ولم يترك أي أثر، أو كأن هذه المؤسسات تتعامل مع قيمة الرجل وقامته بالطريقة التي كان يفضل هو أن يتم التعامل معه بها. فمحفوظ كان يعشق البساطة والسكينة والسلام، وكان متواضعا إلى أقصى حد، لم يته أبداً على الناس بموهبته ولا بإنجازه، ولم يطلب من أحد أن يحتفي أو يحتفل به، بينما كان هو دائم الحديث عن أساتذته وأقرانه، وبعضهم أقل موهبة منه.
وهذا الإهمال عاناه محفوظ في مستهل حياته، فراحت قصصه ورواياته تتوالى من دون أن يلتفت إليها أحد، وتكرر الأمر في ختام مسيرته الإبداعية. إذ شكا الكاتب ثروت أباظة ذات يوم من أن روايات محفوظ كانت تصدر تباعاً منذ مطلع الثمانينيات ولا أحد يكتب عنها، نقداً ولا شرحاً أو حتى مجرد متابعة إخبارية وافية تليق بقدراته الإبداعية.
وكابد محفوظ طويلاً مما سلكه نقاد الأدب تجاهه، حين قدموا عليه من هم أدنى منه بكثير، لأن معتقداته السياسية كانت تختلف عن تلك التي يؤمن بها أغلب النقاد في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم.
ففي يوم من الأيام كان النقاد في مصر يستفيضون في تناول القصص القصيرة التي كان ينشرها محمد صدقي، وكانوا يروجون له باعتباره أكثر موهبة من محفوظ، وأدبه أفيد للبشرية، وهو أولى بالرعاية والمتابعة. وكان محفوظ يراقب ما يجري من دون أن يظهر تبرماً ولا تذمراً، إنما كانت تكسو ملامحه ابتسامة تعجب وسخرية، ولا يدع اليأس يدب في نفسه، بل ينكب على الورق ليكتب ويكتب، فتخرج أعماله إلى الدنيا، محتفظة بقدرة فائقة على التحقق والاستمرار، وباطمئنان صاحبها إلى أن الزمن كفيل بالحكم على من هو أبدع ومن هو أفضل وأنفع، وهو ما حدث بالفعل، إذ صار محفوظ وأدبه ملء الأسماع والأبصار، وانزوى صدقي بعيدا، يلفه النسيان والإهمال والشماتة.
وربما قاد هذا الوضع المختل نفس محفوظ إلى أن تنطوي على قدر هائل من التحدي، ورغبة عارمة في إثبات الذات، وإصرار على المزاوجة بين غزارة الإنتاج وجودته، مع تمكن جلي من ترويض الظروف القاسية، سواء تعلقت بالاغتراب الوظيفي، أو الخوف من تجبر السلطة، أو الإحساس الجارف بأن الزمن الجميل الذي عايشه إبان ثورة 1919 يتسرب من بين أصابعه، مع وصول الضباط إلى الحكم، وانقضاء الليبرالية المصرية المتعثرة.
إن ما يجري على محفوظ من إهمال ينطبق على كثيرين من مبدعينا، في الأدب والفن والعلم، إذ تأتي ذكرى وفاتهم أو ميلادهم فتمر مروراً سريعاً، كأنها دفقة خفيفة من هواء، لا تهز شيئاً، ولا تثير أحداً. ومثل هذا الوضع يصيب تلاميذهم في هذه المجالات الثلاثة بإحباط شديد، لأنهم يدركون أن مصيرهم النسيان، حين يحطون رحالهم، ويفارقون الدنيا إلى غير رجعة، وأن ما هم فيه من حضور يرتبط بوجودهم على قيد الحياة.
لقد كفت إحدى كبريات دور النشر العربية عن طبع أعمال فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة العملاق زكي نجيب محمود، بدعوى أنها لم تعد ذات جدوى اقتصادية في ظل تراجع توزيع الكتب، وتوازى مع هذا إهمال لهذا الرجل، الذي كان ينشر مقالاته العميقة في أكبر صحيفة عربية، وكان الناس يقبلون على كتبه إقبالاً شديداً، ويعجبون بأفكاره الجسورة، وتعبيراته الفياضة، ويتناقشون فيها طويلاً، ويعتقدون وقتها أن أعماله ستظل قادرة على مجاراة الزمن، وتجديد نفسها مع تغير القضايا والاهتمامات والانشغالات.
وهذه الحال أشد قسوة من وضع نجيب محفوظ، لكنها تنطبق على الأغلبية الكاسحة من مبدعينا، فقلة فقط هي التي استطاعت أن تواصل حضورها الكامل، مثل العقاد وطه حسين، وهناك من هم أقل حظاً حيث تطبع بعض كتبهم دون الأخرى، مثل سلامة موسى والمازني. وهناك من تنتهي أعمالهم إلى بضع نسخ صفراء على أرفف المكتبات العامة، أما لحظات ميلادهم ووفاتهم فلم تعد تعني أحداً.
إن العدل والصواب يقضيان بألا نتعامل فقط مع الحضور الجسدي للمبدع، فنهتم به ما دام يخالط الناس ويرونه رؤى العين، ونهمله حين يغادر الدنيا. فمن حيث المنشأ فإن العلم صدقة جارية، ومن حيث المنتهى فإن غصن المعرفة الذي تحط عليه عقولنا وأذواقنا يقف على جذور عميقة صنعها من قبلنا، ومن الإنصاف والسلامة أن تكون الجذور حاضرة، وأصحابها موجودين دوماً.
* كاتب وباحث مصري