عندما تفوق سلطة إعلامي عربي سلطة رئيس دولته، وعندما يعي الناس أن السياسي يأخذ دائماً؛ أصواتاً، أو تفهماً، أو دعماً لسياساته من الناس، بينما الإعلامي يعطي دائماً فهماً، ووعياً، ومتعة، وإدراكاً لهم، سنكون خطونا أهم خطوة نحو الحداثة.في بلدان أكثر منا تطوراً ووعياً وإدراكاً للحاضر واهتماماً بالمستقبل، يخسر السياسي، مهما كان ناجحاً ومسيطراً ومحبوباً، سلطته، ليعود يوماً إلى صفوف الجماهير، أما الإعلامي النابه، الذي يستطيع أن يكتسب ثقة الناس واهتمامهم، فإن نفوذه يزدهر مع الأيام، وسُلطته لا تنفد.
قبل أيام، أطلق الرئيس الثاني والأربعون للولايات المتحدة الأميركية بيل كلينتون كتابه الثاني المهم «العطاء: كيف يستطيع كل منا أن يغير العالم» Giving: How Each of us Can Change the World، وهو الكتاب الذي عاد به إلى الأضواء، بعد مرور أكثر من ست سنوات على تركه الموقع الأخطر والمنصب الأعلى في العالم: رئاسة القوة العظمى المتفردة بزعامة الكون، والتحكم في أضخم وأمضى قوة مسلحة عرفها التاريخ. لقد حكم كلينتون الولايات المتحدة لفترتين رئاسيتين متتاليتين من 1993 إلى 2001؛ فحقق لها نمواً اقتصادياً عالياً مطرداً، وكرس انفرادها بقيادة العالم، وحقق أغراض سياساته الخارجية؛ تارة باستخدام الدبلوماسية، وأخرى بالقمع والدم، من دون أن يورط إدارته في عداء عميق مستدام مع الأصدقاء والحلفاء قبل الأعداء، كما فعل خلفه جورج دبليو بوش وبطانته من المحافظين الجدد. كلينتون الذي ظل محافظاً على شعبية كبيرة، مكنته من اجتياز أزمة سياسية طاحنة، كان يمكن أن تطيح أقوى الزعماء؛ إذ تورط في فضيحة جنسية، وثبت كذبه على شعبه، لكنه استطاع العودة مجدداً رئيساً ذا أهلية واعتبار كاملين، حتى غادر موقعه عزيزاً مشكوراً.
كلينتون هذا وقف على منبر يخطب في جمهور إحدى الولايات، محيياً طالبة في إحدى المدارس الثانوية تدعى «كنيدل»، كونها استطاعت، تماشياً مع الدعوة التي يقوم عليها كتابه، جمع عشرات الآلاف من الدولارات، ضمن حملة قومية تستهدف جمع مليون دولار، لمساعدة مرضى الإيدز من الأطفال في قارة أفريقيا. ولما بدا أن كلينتون شديد التأثر بما فعلته هذه المراهقة، وبما تمتلكه من حس إنساني نادر، ورغبة وقدرة على مساعدة الآخرين وتقصي آلامهم؛ فقد أراد أن يبهرها، وأن يقدم لها شيئاً ثميناً يوازي التزامها الإنساني، ويكافئ جهودها المقدرة؛ فما كان منه إلا أن أخبرها أنه سيأخذها لتقابل شخصاً مهماً حالاً.
وسألت «كنيدل»: من يا ترى؟ فأجاب: إنها أوبرا وينفري، وهي الإجابة التي يبدو أن الفتاة لم تكن تحلم بها، إذ ظهر على وجهها علامات تشي بأنها ربما حققت أغلى أمنية لديها؛ لقاء إعلامية بحجم أوبرا ومكانتها، ولذلك فقد راوحت الفتاة لحظات بين الإفاقة والإغماء، ووضعت يدها على رأسها، كأنما تتأكد من أنها مستيقظة لا تحلم، أما كلينتون (أهم رجل في الأرض سابقاً) فقد كان يربت على كتفها مهدئاً، حريصاً على أن يؤكد لها أنها لا تحلم، وأنها ستقابل أوبرا فعلاً.
في المشهد التالي كانت أوبرا تستقبل كلينتون وكيندل ولاعب التنس المعتزل الشهير أندريه أغاسي، حيث يمكن لكل مشاهد أن يعرف من الشخص الأشهر بين الأربعة، من صاحب السلطة الأهم والنفوذ الذي لا ينفد.
تقول أوبرا، التي ولدت من أبوين غير متزوجين، ونشأت في أحد الأحياء الفقيرة في ولاية مسيسيبي، إنها تسعى دائماً إلى أن تنقل إلى من تحاوره الشعور بأنه مواز وند لها، وأنها لا تعتبر نفسها أعلى مكانة من أي من ضيوفها.
فمن أين حصلت تلك السيدة الأميركية ذات الأصل الأفريقي على تلك السلطة والنفوذ؛ كيف تمكنت ابنة البقال والغسالة، التي استطاعت بالكاد استكمال دراستها الاجتماعية بعدما حصلت على منحة، والتي تعرضت للاغتصاب في سن التاسعة على يد أحد أبناء عمومتها، تكوين ثروة بلغت ملياراً ونصف المليار دولار؟
إنه الإعلام؛ إذ يمنح لنجومه نفوذاً وأبهة وتأثيراً، ويضعهم في البلدان المتقدمة على رأس الصفوة، حيث يتمنى الرؤساء السابقون أن يصافحوا مذيعاً أو يحظوا بمقابلة مع صحافي شهير.
احتلت أوبرا المرتبة التاسعة ضمن النساء العشرين الأكثر نفوذاً في وسائل الإعلام والسلطة الاقتصادية في الولايات المتحدة الأميركية، وفق مجلة «فوربس». كما حلت في المرتبة الثانية ضمن تصنيف آخر لأكثر النساء تأثيراً في العالم. وبدخل سنوي يزيد على 225 مليون دولار، وبشركة إنتاج تلفزيوني، ومجلة شهيرة، وعدد مشاهدين يبلغ 30 مليوناً داخل بلادها، وعشرات الملايين في 112 دولة حول العالم، باتت الإعلامية السمراء، ذات الـ 54 ربيعاً، رقماً صعباً، ومؤسسة في حد ذاتها.
وأوبرا اليوم تتبنى نحو 50 ألف طفل في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، وأنشأت أكبر مكتبة مجانية في العالم، وتدير برامج لمكافحة الفقر والإيدز حول العالم، وتتبرع بثروتها كاملة لأعمال الخير بعد وفاتها، وتتمتع بسلطة أكبر من تلك التي يتمتع بها كلينتون الآن، ومن تلك التي سيحظى بها بوش بعد قليل، وهي تبدو في وضع أفضل من أي زعيم سابق لإحدى دول «العالم الحر».
عندما تفوق سلطة إعلامي عربي سلطة رئيس دولته، وعندما يعي الناس أن السياسي يأخذ دائماً؛ أصواتاً، أو تفهماً، أو دعماً لسياساته من الناس، بينما الإعلامي يعطي دائماً فهماً، ووعياً، ومتعة، وإدراكاً لهم، سنكون خطونا أهم خطوة نحو الحداثة.
* كاتب مصري