سعاد الصباح تعقّب على ذكريات أحمد الخطيب (2)
د. الخطيب اعتبر رفض الشيوخ تزويد الكويت بمياه من العراق قراراً خاطئاً
عندما قررت «الجريدة» نشر مذكرات الدكتور أحمد الخطيب، فقد جاء ذلك القرار عن ادراك، ليس لأهمية ما ورد فيها من معلومات وأفكار وآراء فحسب، ولكن انطلاقا من رغبتنا في كسر حاجز وهمي طالما ظل يسيطر على الحياة السياسية الكويتية، وهو أنه على الرغم من ثراء وتنوع الفعل والنشاط الكويتي العام، إلا أننا نادراً ما نجد من يقدم تجربته من جيل الرواد لكي يتداولها الناس، ويتعرفوا عن كثب على شخصيات ورموز أثّرت وأثْرت وأعطت لبناء هذا الوطن، فأغلبية ما صيغ وما نشر من تلك التجارب لا تعدو كونها سردا طوليا، أو ملفات للصور، لا تحلل ولا تشرح بقدر ما تبين البعد الايجابي للشخص صاحب المذكرات، وقد ترتب على هذا نقص حاد وقصور شديد في المكتبة الكويتية الخالية من المذكرات الشخصية التي تمارس نقدا ذاتيا، وتلتزم الأصول المتعارف عليها لفن كتابة المذكرات، فكتابة المذكرات ليست كما قد يتصور البعض بأنها كتابة مؤرخين يستندون في كتابتهم الى مصادر موثوقة بالضرورة يتم استقاؤها من رسائل أو كتب، ولكنها سيرة ذاتية لصاحب المذكرات كما رآها هو، وكما فهمها هو، وكما عايشها هو، وهذا الامر يعني بالضرورة أنه قد تكون هناك حقائق مكملة غابت عن مشاهدة صاحب المذكرات، وهو أمر لا تثريب عليه، بل انه قد يكون حافزا لآخرين لأن يصححوا، ان كانوا يتصورون أن اغفالا ما قد حدث، دون الحاجة الى التجريح أو التجريم.
وهكذا كان قدر «الجريدة» أن تصدر في الوقت ذاته الذي انتهى فيه الدكتور أحمد الخطيب من كتابة مذكراته، فالتوقيت بالنسبة لنا كان فرصة لا تعوض للاقدام على هذه الخطوة، التي نسعى الى ان تتبعها خطوات أخرى مع شخصيات كويتية كانت لها اسهاماتها في مسيرة هذا الوطن، ونحن إذ نفتخر بأننا نشرنا مذكرات الدكتور أحمد الخطيب فإننا في الوقت ذاته نرحب بجميع الردود والتعقيبات. من هذا المنطلق يأتي ترحيبنا بنشر رد الدكتورة سعاد الصباح التي نكن لها الكثير من المودة والاحترام، ونحن في «الجريدة» وإن كنا نقدر الرغبة الصادقة للدكتورة سعاد الصباح في تثبيت الدور الذي أداه زوجها ورفيق دربها الشيخ عبدالله المبارك في مسارات الحياة السياسية الكويتية حتى مغادرته الكويت عام 1961، إلا أننا نختلف مع بعض الأحكام والنعوت التي وصفت بها الدكتور الخطيب، ولكننا على أي حال ملتزمون بنشرها كما وصلت الينا من دون حذف أو تعديل من أي نوع. لقد أوضح نشر مذكرات الدكتور الخطيب صحة ما ذهبنا إليه من الناحيتين المنهجية والاعلامية، فمن حيث المنهج فإننا فتحنا الباب لأسلوب جديد في التعاطي مع التطور السياسي في الكويت ظل مفقودا طوال هذه السنين، ونحمد الله اننا وفقنا في كسره مع شخصية بأهمية الدكتور أحمد الخطيب ورمزيته. أما من الناحية الاعلامية فقد كانت المتابعة غير المسبوقة للمذكرات وتجاوب القراء معها دليلا آخر على أنه مازالت هناك مساحة واسعة لتقديم مادة ذات نوعية جادة ومقروءة في الوقت ذاته. ولا يسعنا هنا إلا التقدم بالشكر للدكتورة سعاد الصباح على مسعاها الذي نعلم انه سيثير أيضا جدلا وردود أفعال نأمل ان تستمر، فتاريخ الكويت ليس ملكا لأحد، بل هو ملك للكويت كلها، وطالما اننا مازلنا نتنفس نسائم الحرية، فللجميع الحق -من دون استثناء - في أن يقول رأيه. تتناول الحلقة الثانية من تعقيب د.سعاد الصباح على ذكريات د.أحمد الخطيب موقف الشيخ عبدالله السالم وأعضاء المجلس الأعلى الرافض مشروع تزويد الكويت بمياه من شط العرب مع العراق، وكيف أن هذا الموقف يتعارض مع ما ذكره د.الخطيب في ذكرياته، إذ اعتبر الخطيب أن رفض الكويت هذا المشروع كان قراراً خاطئاً اتخذه الشيوخ، كما تطرقت إلى الضغوط الشديدة التي تعرضت لها الكويت للمشاركة في الاتحاد الهاشمي. كما رأت د. سعاد الصباح أن ثمة أحداثاً مهمة في تاريخ زوجها عبدالله المبارك تجاهلها د. الخطيب ولم يأت على ذكرها. إن القارئ لكتاب ذكريات د. أحمد الخطيب يحتار في تفسير هذا الحجم من الكراهية التي يحملها المؤلِّف لأسرة الصباح، إذ يمتلئ الكتاب بالعديد من العبارات القاسية والمبالغ فيها، والتي تعكس شعوراً دفيناً بالعداء لهذه الأسرة. من أمثلة ذلك قوله: «فتاريخ الكويت تعرّض للتزوير والتدجيل وألغي دور الكويتيين كليّاً وأصبحت الكويت كلّها وتاريخها تاريخ عائلة الصباح» (ص61). والحقيقة، أنّني لا أعرف إلى ماذا يشير الكاتب؟... وما هو ذلك التاريخ الذي تمّ تزويره؟ والذي أعرفه أن الكويت تفخر بمجموعة متميّزة من الباحثين والمؤرِّخين الذين قدّموا إضافات مهمة في دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للكويت، وتاريخ الغوص، وتاريخ صناعة السفن الشراعيّة، وتطوّر الحِرَف اليدويّة، وغير ذلك من سائر مظاهر الحياة والمجتمع، ونحن جميعاً نعتزّ بالصِّلة الوثيقة التي يسجِّلها التاريخ بين السلطة والمجتمع، وبين الأسرة الحاكمة والمواطنين، والتي قامت دوماً على التراضي والتوافق. ومن الأمثلة الأخرى الدّالة على شعور المؤلِّف بالكراهية قوله «لم أكن أتصوّر أنّني بهذا الرخص عند الصباح» (ص 130)، أو قوله: «لم أكن أعتقد أنّ كراهيّتهم لي قد وصلت إلى هذه الدَّرجة» (ص 191)، أو قوله: «أنا أعرف أنّني مكروه من معظم أفراد عائلة الصباح» (ص 270). ويلاحظ على هذه العبارات أنّها جميعها بصيغة «الجمع»، فهو لا يشير إلى شخص بعينه وإنّما إلى مجموعة. والمرء يتوقّف طويلاً أمام هذا الشعور العميق بالعداء من جانب المؤلِّف، والذي يسقطه على الآخرين، ووصوله إلى استنتاجات عامّة من خلال أحداث شخصيّة يرويها، وليس لها سند سوى روايته. وأتذكّر ما حدث في مطلع السبعينيات عندما حلّ السيد حسين الشافعي ضيفاً على الشيخ عبداللّه المبارك في القصر الأبيض، وكان يشغل وقتها منصب نائب رئيس الجمهورية في مصر، وأقام له الشيخ عبداللّه المبارك حفل عشاء، رأيت صورة الدكتور الخطيب بين المدعوين، ولمّا سألت الشيخ عبداللّه المبارك عن سبب دعوته له قال لي أرجو أن تميِّزي بين الموقف الشخصي والدور الوظيفي، وأعرف أنّه لا الشيخ عبداللّه المبارك ولا أنا، ونحن من عائلة الصباح، نحمل أي كراهيّة أو ضغينة للدكتور الخطيب أو آخرين. حقوق المرأة ومن هذه الأمثلة أيضاً قوله: «وعند استعراض الأحداث في الكويت خلال نصف قرن، أجد أنّ النّظام ينجح دائماً في تحميل الشعب الكويتي مسؤولية أي قرار خطأ يسيء إلى سمعة الكويت، وآخرها قانون إعطاء المرأة حقوقها السياسيّة، الذي أسقطه مجلس الأمّة، وصار الشعب الكويتي ممشة زفر لهم كما يقول المثل» (ص 171 - 172). وهذا الاستنتاج الذي وصل إليه المؤلِّف يعبِّر عن شعور شخصي أكثر من تعبيره عن حقائق التاريخ، فضلاً عن أنّه في أيّ دولة، فإن الحكومة هي التي تتحمل مسؤولية ما تتّخذه من قرارات. وبالتالي، فإنَّه لا يوجد مجال لتحميل الشعب مسؤولية هذا الأمر أو ذاك. والأدلة التي يقدّمها المؤلّف لا تسند النتيجة التي وصل إليها، فلا أدري ما هي الجريمة التي ارتكبها الحكم بشأن موضوع المرأة، فقد قام أمير البلاد بعرض مشروع قانون إعطاء المرأة الكويتية حقوقها السياسية مرتين ولم يحصل المشروع على موافقة الأغلبية المطلوبة من المجلس النيابي. وإيماناً من الشيخ جابر الأحمد بحقوق المرأة، فقد أصدر مرسوماً أميريّاً بذلك. فما هو وجه الإساءة للشعب الكويتي؟ وهل يكون الحفاظ على سمعة شعب الكويت هو الاستمرار في حرمان المرأة من حقوقها السياسية؟!! تزويد الكويت بالمياه والدليل الآخر الذي يقدّمه المؤلِّف أكثر فداحة وهو المتعلّق بموضوع المياه (169 - 172) فبعد أن عرض د. الخطيب لمفاوضات تزويد الكويت بمياه شط العرب مع العراق، ورفض الشيخ عبداللّه السالم وأعضاء المجلس الأعلى هذا المشروع، اعتبر المؤلِّف أن رفض الشيوخ للمشروع كان قراراً خاطئاً اتخذه الشيوخ وحاولوا إلباسه للشعب الكويتي. ولو أنّ هذا الكلام قيل قبل جريمة احتلال الكويت عام 1990 لقلنا أنّه رأي يخضع للمناقشة، ولكن أليس من العجيب أن يتمسّك الدكتور برأيه بشأن جدوى ذلك المشروع بعد جريمة الغزو الأسود. أوَلم يكن قرار الشيوخ بضرورة أن يكون للكويت مصادرها المستقلّة من المياه تأكيداً لاستقلالها؟ لقد انطلق القرار الكويتي في هذا الشأن من ضرورة عدم اعتماد الكويت في مياه شربها على مصدر تسيطر عليه دولة أخرى، وكذلك عدم رغبتها في أن تصبح طرفاً في الحرب الباردة العربية بين القاهرة وبغداد، وكان قبول الكويت هذا الاتفاق مع العراق وقتذاك يعني دعماً للتيّار الذي قاده نوري السعيد والذي تمثّل في إنشاء حلف بغداد عام 1955 ثم الاتحاد العربي في فبراير 1958 بين العراق والأردن. وهذا هو التيّار الذي ناهض ثورة 1952 والحركة التحريريّة العربية التي قادها الرئيس جمال عبدالناصر. وإنّني في غاية الدهشة من هذا الموقف الذي يعبّر عنه الدكتور الخطيب باعتباره أحد قادة «حركة القوميين العرب»، وانتقاده قرار الكويت بعدم التعاون مع النظام العراقي المتحالف مع الغرب والمعادي للقاهرة. إن رأي الدكتور الخطيب يتجاهل حقيقة الأطماع العراقيّة في الكويت، والتي أفصحت عن نفسها مرّاتٍ ومرات. ففي مايو عام 1952، أعرب العراق عن رغبته في الحصول على جزيرة وربة والسّاحل المقابل لها لإنشاء ميناء عراقي في أم قصر، وذلك مقابل مدّ الكويت بالمياه. كما طرحت شركة نفط العراق مشروعاً لمدّ خط أنابيب لنقل النفط العراقي من الزبير إلى البحر بالقرب من ميناء الأحمدي، وأعاد العراق مطالبه عام 1954. وكتب القنصل الأميركي في الكويت في 23 يناير عام 1956، أنّه بعد عام من المفاوضات مع العراق، وصلت الحكومة الكويتية إلى قرار بعد المضي قدماً في تنفيذ مشروع خط أنابيب المياه. وعرض التقرير لعدد من تفسيرات القرار الكويتي مثل عدم رغبة الكويت في أن تعتمد في مياه شربها على مصدر تسيطر عليه دولة أخرى، ودور المشاعر المعادية للغرب والمؤيدة لمصر في اتخاذ القرار، وعدم رغبة الكويت في أن تصبح طرفاً في الحرب الباردة العربية بين القاهرة وبغداد أو في اتخاذ موقف مناهض للائتلاف المصري السوري والسعودي [From American Consulate (Brewer) to Department of State. January 23, 1965]. يبدو أن القرار الكويتي قد أحرج الحكومة العراقية، لذلك سارع وزير الخارجية برهان الدين باش أعيان بإصدار بيان ينفي فيه أن العراق طلب تعديل الحدود كشرط للموافقة على مشروع أنابيب المياه [From American Embassy in Baghdad (Elits) to Department of State, March 9, 1956]. ولكنّ الموقف العراقي الفعلي استمرّ في ربط موضوع المياه بالحدود. ورفض الشيخ عبداللّه المبارك تلك الأفكار جملة وتفصيلاً، مؤكِّداً على استقلال الكويت وحقّها في ممارسة سيادتها على أراضيها ومواردها، لذلك فعندما أرسل وزير الخارجية العراقي خطاباً إلى كل من أمير الكويت الشيخ عبداللّه السالم ونائبه الشيخ عبداللّه المبارك، في أبريل عام 1956، يُعرب فيه عن قبول العراق فكرة تزويد الكويت بالمياه من شط العرب، ردّ الشيخ عبداللّه المبارك بخطاب شكر على موافقة العراق وأنّ هذا هو «المتوقّع دوماً من الإخوة العراقيين» [نص الرسالة في تقرير القنصل الأميركي. From American Embassy in Baghdad (Eli ts) to Department of State, April, 1956]. ولكنه رفض ربط ذلك بموضوع الحدود، أو المشاركة في عوائد النفط، مؤكداً استعداد الكويت للتفاوض مع العراق حول قضية الحدود وذلك على أساس الخطابات المتبادلة بين رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد والوكيل السياسي البريطاني عام 1932. وأكّد على أن حاجة الكويت إلى دخلها من البترول تماثل حاجتها إلى الماء تماماً، كما تُماثل حاجة العراق إلى مدّ خطوط أنابيب لتصدير بتروله الخام. تسوية الحدود أولاً وحسب تقرير للقنصل الأميركي في الكويت بتاريخ 11 مارس عام 1957، فإنّ المجلس الأعلى ناقش مشروع الاتفاق الذي قدّمه العراق في بداية فبراير، واقترح على الحاكم في 9 مارس عدم الموافقة على مشروع خط أنابيب المياه أو على مشروع خط أنابيب النفط الذي اقترحته شركة النفط العراقية إلاّ بعد تسوية موضوع الحدود. وأوصت القنصلية بضرورة العمل على تحسين العلاقات بين العراق والكويت، لأن ذلك يتّفق مع المصالح الغربيّة في المنطقة، واقترحت أن تسعى وزارة الخارجية الأميركية لإقناع بغداد بقبول الموقف الكويتي [From American Consulate (Brewer) to Department of State, March 19, 1957]. كما اقترحت انكلترا حلاً وسطاً يتمّ بمقتضاه ترسيم الحدود عند النقاط التي يتمّ فيها مرور أنابيب نقل المياه عبر الحدود بين البلدين. ولكنّ أمير الكويت ونائبه رفضا هذا الحل، لأنه من غير المقبول أن يتم الترسيم عند نقطتين دون بقية الحدود [From American Consulate (Seelye) to Department of State, November 4, 1957 ]. ومع تبلور هذا الموقف الكويتي، حاول العراق تهدئة الموقف. ولذلك، فقد وجّه الملك فيصل ملك العراق دعوة إلى الشيخ عبداللّه المبارك لزيارة بغداد في عيد الفطر لإقناعه بأنه ليس للعراق مطامع إقليمية في الكويت [مجلة المصور بتاريخ 27 أبريل 1956]. ولكنّ ذلك لم يغيّر من الأمر شيئاً. فقد تحوّل التفكير الكويتي إلى اتجاه آخر وهو تقطير مياه البحر، وبالفعل تمّت إقامة أكبر منشأة لتقطير وتحلية المياه في عام 1958 بسعة مليوني غالون يومياً [جمال زكريا قاسم: الخليج العربي، دراسة لتاريخه المعاصر 1945 - 1971]. واستمرت هذه الضغوط حتى سقوط النظام الملكي في الشهر نفسه، وبدء صفحة جديدة من العلاقات مع العراق. الخلاصة أن المجلس الأعلى اقترح على الأمير عدم الموافقة على مشروع خط أنابيب المياه، أو مشروع خط أنابيب النفط إلاّ بعد تسوية موضوع الحدود، هذا هو الموقف الوطني الذي يحترم مصالح الكويت وأمنها فكيف يعتبر د. الخطيب رفض الشيوخ للمشروع قراراً خاطئاً؟. حيادية الكويت وفي حديث صحفي بعد قيام ثورة يوليو عام 1958 في العراق، أجاب الشيخ عبداللّه المبارك عن سؤال عن المفاوضات التي تمّت مع العهد السابق حول مدّ مياه شط العرب إلى الكويت قائلاً: «نعم دارت مفاوضات، ولكنهم أرادوا أن يبعدونا عن حيادنا، وأن ينتزعونا من دائرتنا الحرّة التي نعيش فيها أصدقاء للعالم كله، وأشقّاء للعرب في كل مكان، فاتحين بيوتنا ومؤسساتنا الصناعية والتجارية ومدارسنا ودوائرنا الحكومية ليعيش ويعمل فيها كل عربي معزّزاً مكرّماً موفور الرزق. لقد ساومونا -ساسة العراق- على أن تتّحد بلدنا مع العراق في نظير مدّنا بماء الشرب من شط العرب، فقلت لهم بأعلى صوتي: أبداً لن نتنازل عن شبر من أرضنا ولو متنا عطشاً. وقالوا وهم يردّدون مرة أخرى: فليكن التعاون بيننا في استغلال أرباح البترول، وقلت لهم أيضاً مرّة أخرى وبأعلى صوتي: أبداً. إنّ هذه الأرباح ملك لشعب الكويت تُنفق عليه وعلى مشروعات الإصلاح والتعمير لبلاده. ولقد كرّروا العرض بطريق مباشر وبطريق غير مباشر، وكررت الرفض وأصررت عليه حتى يئسوا تماماً وأدركوا أن الكويت صخرة العروبة المنيعة التي لا تُنال أبداً» [مجلة الاثنين والدنيا بتاريخ 15 ديسمبر 1958]. ونحن لا نجد في ذكريات د. أحمد الخطيب تفصيلاً عن الجهود التي قام بها إزاء هذه الضغوط العراقية، والمؤيدة إنكليزياً وأميركياً، على بلده الكويت. الكويت تتعرض لضغوط ونلاحظ هنا أيضاً أنّ الدكتور الخطيب لم يعرض التطوّرات التي ارتبطت بالضغوط على الكويت للانضمام إلى الاتحاد العربي الذي قام بين العراق والأردن، ففي عام 1958، ومع ازدياد الاستقطاب السياسي بين التيار القومي الذي كانت تقوده مصر بزعامة جمال عبدالناصر، والذي أسفر عن قيام الجمهورية العربية المتحدة، والتيار الهاشمي، الذي تزعمه نوري السعيد، وأسفر عن قيام الاتحاد العربي بين الأردن والعراق في 14 فبراير عام 1958، حاول العراق إقناع الكويت بالانضمام إلى الاتحاد، وبذل جهوداً سيّاسية ودبلوماسيّة كبيرة لتحقيق ذلك الهدف دون نجاح. وفي هذا الوقت، تعرّضت الكويت لضغوط شديدة للمشاركة في الاتحاد الهاشمي، واستخدمت الحكومة العراقية شتى أساليب الإغراء والضغط، وكانت تهدف من وراء ذلك إلى تحقيق عدّة أهداف: أوّلها توسيع إطار الاتحاد، وإعطاء الانطباع بأنه القوة الصاعدة في المنطقة العربية، وثانيها إدخال أطراف لا تحكمها الأسرة الهاشمية حتى لا يبدو اتحاداً في إطار أسرة حاكمة واحدة، وثالثها الإفادة من الموارد المالية للكويت في دعم الاتحاد. وعلى الرغم من هذه الضغوط، وخلال زيارة للشيخ عبداللّه المبارك إلى العراق في مايو عام 1958، أعلن «أن الكويت لا تنوي الانضمام إلى دولة الاتحاد العربي». [جريدة بيروت المساء بتاريخ 15 مايو 1958]. وفي إطار سعي العراق لحثّ الكويت على الانضمام للاتحاد، طرح العراق فكرة عقد معاهدة أخوة وتحالف بين حكومة الاتحاد وإمارة الكويت على أساس الاعتراف باستقلال الإمارة ونظام الحكم القائم فيها، والتشاور في أمور السياسة الخارجية، وقيام حكومة الاتحاد بتمثيل الكويت دبلوماسياً وقنصلياً لدى الدول الأخرى، والمساعدة في صد أي عدوان يقع على عضو من أعضاء الاتحاد، وأن تساهم إمارة الكويت بنسبة معيّنة في ميزانيّة حكومة الاتحاد. وفي العام المذكور نفسه، قدّم توفيق السويدي وزير خارجية الاتحاد مذكّرة شديدة اللهجة إلى كل من بريطانيا والولايات المتحدة تضمّنت اقتراحاً بمنح الكويت الاستقلال بشرط انضمامها للاتحاد العربي وتقديمها معونة سنوية له. وفي حالة عدم الأخذ بهذا الاقتراح، يطلب العراق إعادة النظر في حدود الكويت لتعود إلى ما كانت عليه سالفاً، حيث «لم تتعد مدينة الكويت بكثير». وأنّه إذا لم يؤخذ بأيّ من هذين الاقتراحين فإن العراق يحتفظ لنفسه بحقه في حريّة التصرّف. [فكرت.. نامق عبدالفتّاح: سياسة العراق الخارجية في المنطقة العربية 1953 - 1958]. ولم ييأس نوري السعيد واتصل بالولايات المتحدة طالباً منها استخدام نفوذها لدى لندن لإقناع الكويت بأهمية الانضمام إلى الاتحاد العربي على أساس أنه يحتاج إلى تعزيز، وأنّ الكويت يمكن أن تعطيه القوة التي يحتاجها. [مجموعة البرقيات والتقارير المتعلّقة بهذا الموضوع المنشور في: A.D.L. Rush, ed. Records of Kuwait 1899 - 1961, London: Archive Editions, 1989]. زيارة العراق وفي مارس من عام 1958، قام أمير الكويت بزيارة العراق ولحق به نائبه، وعرض عليهما نوري السعيد تسوية موضوع الحدود بين البلدين وتزويد الكويت بالمياه من شط العرب مقابل الانضمام للاتحاد. ولكنّهما لم يستجيبا، وأبلغ الأمير نوري أنه ونائبه ينويان زيارة القاهرة عقب عودة جمال عبدالناصر من موسكو. وفي نفس الشهر وأثناء زيارة وزير الخارجية البريطاني العراق، اقترح فاضل الجمالي ضرورة إعلان استقلال الكويت ومنح أميرها لقب ملك مقابل انضمامها للاتحاد [From American Consulate (Seelve) to Department of State, February 23, 1958]. وفي مناسبة أخرى، ألمح وزير مالية الاتحاد إلى السفير الأميركي بأن العراق مستعد للوصول إلى اتفاق بشأن الحدود بين البلدين، وأن يضمن لحاكم الكويت مركزه المالي مقابل انضمام الكويت إلى الاتحاد العربي. كما جرت مفاوضات بين ملكي العراق والأردن، من ناحية، وشيخ الكويت ونائبه، من ناحية أخرى، لمناقشة الموضوع، ولكن الكويت ظلّت على موقفها. وفي يونيو عام 1958، سافر نوري السعيد إلى لندن لإقناع وزير الخارجية سلوين لويد بأهمية انضمام الكويت للاتحاد العربي. ثم أبلغ السفير البريطاني في بغداد وزير خارجية الاتحاد أن حكومته وافقت، من حيث المبدأ، على فكرة انضمام الكويت إلى الاتحاد بعد إعلان استقلالها، على أن يتم الاتفاق على التفاصيل في اجتماع يعقد في لندن في 24 يوليو عام 1958. ومع بداية يوليو، كان من الواضح أنّ لندن قد اتّخذت قراراً بأهمية انضمام الكويت للاتحاد العربي، فصرّح وزير الخارجيّة البريطاني سلوين لويد بأن على العراق أن يتعامل مباشرة مع الكويت. وشكّل هذا التصريح ضغطاً سيّاسياً على الكويت، خصوصا أنّ الأمير ونائبه كانا على معرفة بمضمون المذكّرة العراقيّة شديدة اللهجة التي أشرت إليها سالفاً. وكان معنى هذا التصريح هو أنّ بريطانيا ترفع يدها عن الموضوع، وتعطي الضوء الأخضر للعراق لكي يمارس ضغوطه مباشرة على الكويت [Telegram from American Consulate (Seelye) to Secretary of State, July 8, 1958]. وإزاء تلك الضغوط، أشار الشيخ عبداللّه المبارك -باعتباره الحاكم بالنيابة- على الوكيل السياسي بأن الكويت «تستطيع وربما تنضم إلى الجمهورية العربيّة المتحدة في علاقة اتحاديّة، وأنه ليس من المستحيل تحقيق ذلك مع الحفاظ على العلاقة الخاصة مع بريطانيا» [Telegram from American Consulate (Seelye) to Secretary of State, July 23, 1958]. وتحرّكت الحكومة العراقيّة بسرعة، وتمّ إعداد مذكّرة بالتفاصيل وبمزايا انضمام الكويت للاتحاد العربي، ورد فيها أن تحتفظ الكويت بشخصيتها المستقلّة، ونظام الحكم القائم فيها، وبعلمها الخاص في إقليمها على أن يكون علم الاتحاد علماً اتّحاديّاً للكويت. ويكون لكل مواطني دول الاتحاد حرية التملّك والتّنقل والإقامة وممارسة المهنة والالتحاق بالمعاهد التعليميّة في الدول الثلاث. وعكست هذه المذكّرة هدف الحكومتين العراقيّة والأردنيّة من الإلحاح على انضمام الكويت، وهو توظيف الموارد الماليّة الكويتية لمصلحة العراق والأردن. لذلك تضمّنت المذكّرة موافقة إمارة الكويت على تفويض حكومة الاتّحاد في ممارسة عدد من الاختصاصات، مثل الشؤون الخارجية والقوّات المسلّحة والجمارك وشؤون العملة والصرافة. وذراً للرماد في العيون، أشارت المذكّرة على مفاتحة أمير الكويت وأخذ رأيه في جميع المسائل المتعلّقة بالشؤون الخارجية والدفاع للكويت قبل اتخاذ القرار النهائي بشأنها لكن الكويت ظلّت على موقفها الرافض. [فكرت.. نامق عبدالفتّاح]. هذا جزء من الأحداث التي لم يتطرق لها د.أحمد رغم أهميته (يتبع)